تحقيقات

الباحث عبد الغفور بدوي : التنمية في مفهوم الإسلام تطوير شامل لقدرات الإنسان ومهاراته المادية والمعنوية

لم يكن إطلاق المؤتمر الأول للتنمية المجتمعية في سورية وليد اللحظة حيث يعرف المتابع لهذا القطاع والعاملون فيه أنه كان نتيجة لفكرة مرت بأطوارها الجنينية ثم ولدت وتم لحظها ورعايتها ومازالت مستمرة في مجتمعنا الذي رحب بها وعمقها قولاً وفعلاً بسبب امتلاكه
 

أرضية اجتماعية مبنية على تقاليد متجذرة من التكافل والتضامن بين مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية التي أكدت أن هذه العملية ليست مسؤولية الجانب الحكومي فقط بل هي واجب مجتمعي بالدرجة الأولى وهنا يأتي دور المثقفين والإعلاميين ورجال الدين المتنورين والأطباء والمهندسين والمحامين بشتى اختصاصاتهم ليدفعوا بعجلة التنمية نحو مجتمع أفضل.

وفي هذا السياق أكد الباحث الإسلامي عبد الغفور بدوي على دور رجال الدين الإسلامي والمسيحي في عملية البناء المجتمعي والتنمية مبيناً أن الدين الإسلامي حث على التنمية و إن لم يأت ذلك صريحاًًً بهذا اللفظ بل أتى بما يدل عليه من العمارة و التمكين و النماء والتثمير فمثلاً في مجال الزراعة قال صلى الله عليه و سلم ((ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة )) ونظر إليها على أنها وسيلة لتحقيق سعادة الإنسان و رفاهيته وتحقيق مصالحه و الرقي بالمجتمع وتطوره اجتماعياً و اقتصادياً و سياسياً ولم يجعل منها غاية في ذاتها حتى لا يجعل الإنسان خادماً لها على حساب سعادته وتدهور علاقاته الاجتماعية كما حدث في الغرب الذي جعل من التنمية غاية مطلقة على حساب الإنسان و كرامته فكان مقياس الرقي في ذلك المجتمع الإنتاج، فجعل دخل الفرد أو نصيبه من الكهرباء أو البروتين أو ما يستهلكه من مواد غذائية هي مؤشرات حقيقية للتنمية و أهمل بناء الإنسان روحياً و عقلياً و أخلاقياً فهو يكدح ليلاً و نهاراً من أجل زيادة الإنتاج وتطويره و تحسينه فأصبح يعاني من مشكلات اجتماعية وجرائم متنوعة و نزعات لا أخلاقية كالقتل والانتحار و البطالة و غيرها، في حين سعى الإسلام إلى تطور الإنسان من خلال نظمه و تعاليمه وإلى إسعاده في الدنيا والآخرة وهذا التطور مبني على نظرة الإنسان للكون والحياة فكل ما في هذه الطبيعة مسخر له لأنه محور التنمية و غايتها و هدفها ليعيش حياة طيبة هانئة.

وبين الأستاذ البدي أن التنمية في مفهوم الإسلام هي التطوير الشامل لقدرات الإنسان ومهاراته المادية والمعنوية فالإنسان بحق هو أهم وأسمى ما في هذا الوجود و كلما ارتقى بروحه و أخلاقه وفكره وعقله وعلمه أصبح عنصراً فعالاً ونافعاً يسهم في بناء مجتمعه انطلاقاً من الدائرة التي يتواجد فيها مهما كانت صغيرة وهنا يبرز دور رجال الدين في التحفيز وشرح مفاهيم التنمية في خطابهم الديني مما يسهم تعميق هذا المفهوم في النفوس والقلوب ويصبح مشروعاً لكل الفرد في المجتمع وعلى جميع المستويات وأضاف البدوي : لذلك أولى الإسلام التنمية التعليمية قبل غيرها الأهمية العظمى وأمر الإنسان بالتعلم صغيراً كان أو كبيراً فكانت أول كلمة نزلت في القرآن ((إقرأ)) قال تعالى (هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون ) صدق الله العظيم، فليس من وسيلة تهيئ الإنسان و تؤهله للقيام بعملية التنمية والنهوض الحضاري كالتعليم لذا قال عليه الصلاة و السلام ((ليس مني إلا عالم أو متعلم )) ونستطيع أن نقول بدون أدنى تحفظ أن التربية هي تنمية بكل أبعادها وأي مفهوم للتنمية بعيداً عن هذا فهو مفهوم جزئي وعاجز عن تحقيق الهدف فالإنسان المؤهل علمياً والذي يمتلك القدرة والمهارة والمعرفة و الإدارة الصحيحة لعمله مهما كان صغيراً هو الذي يقوم بعمله على أحسن وجه وبأقصر وقت ممكن دون الرجوع أو التبعية لأحد وهذا بحد ذاته تنمية؛ لذا فالتنمية الحقيقية هي التي تصنع و لا تستورد استيراداً من شرق أو غرب و لا يمكن أن تكون حقيقية إلا إذا كانت بعيدة عن التبعية و هذا لا يتحقق إلا بالاعتماد على الذات كما حدث في الصدر الأول من الإسلام حيث أولى الرسول صلى الله عليه و سلم مكانة عظيمة للتعليم وكذلك الأجيال الإسلامية التي كان يخلف بعضها بعضاً في نشر العلم و تعليمه فحققوا بذلك نهضة حضارية و تنمية مستقلة اعتمدوا فيها على قدراتهم الذاتية و كفاءاتهم الخاصة فكان منهم القادة و العظماء و الفلاسفة و الأطباء كالرازي و ابن سينا وابن حيان والخوارزمي الذين أسسوا قواعد علمية خلدها التاريخ و ما زالت باقية في أذهان كثير من رواد التنمية و هذا ما نصبوا إليه في سورية ونسير باتجاهه سيراً حثيثاً وهذا يتطلب تضافر الجهود والتعاون بين الحكومة و المجتمع الأهلي بكافة شرائحه لخلق جيل من المثقفين والمتنورين ومن غير المتلقنين الذين يحفظون عن ظهر قلب للامتحان و الامتحان فقط فإذا ما انتهى الامتحان ألقوا كتبهم وراء ظهورهم إلى غير رجعة و عادوها إلى الأبد ولابد لهذا الجيل المتنور المثقف من أن يقدم أبحاثاً علمية تقدم إضافات نوعية لتوضيح مفهوم التنمية من النظرية إلى التطبيق و تحليل مصادرها عبر مقولات ثقافية و ورشات عمل برؤية حضارية واقعية اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً و لابد أن نفصل بين ما ينظره لنا الآخرون في الشرق أو الغرب و بين ما هو متجذر في هويتنا الوطنية والإسلامية وأن نولي اهتماماً كبيراً لمحو الأمية و خاصة عند النساء والأطفال والاهتمام بالمناطق الريفية والنائية وتأمين المستلزمات الضرورية لذلك من كوادر مثقفة ومؤهلة لرفع وتيرة التعليم والقدرة على القراءة والكتابة مما يسمح لهؤلاء الأميين دون فصل جنسي و تمييز بين ذكر وأنثى لممارسة أعمال تدر عليهم دخلاً أكبر وتمكنهم من الإطلاع على الأخطار الصحية والأمراض و الأوبئة التي تعيق عملية التنمية و تجعل من المجتمع مجتمعا ضعيفاً و هزيلاً مما يؤدي إلى الفقر والبطالة وانتشار ظاهرة التسول وإن قلة التحصيل العلمي ورداءة نوعيته و انتشار الجهل والأمية في المجتمع يؤدي إلى التخلف الاقتصادي و الاجتماعي. 

وأشار الشيخ عبد الغفور إلى النشاطات الإنسانية والتنموية التي انتشرت على امتداد سورية مما يبشر بالخير و يعد ببناء مجتمع قوي و متماسك و حضاري وما تكريم السيدة الأولى لعدد من الأمهات السوريات اللواتي تحررن من الأمية و بذلن جهوداً حثيثة لتنمية إمكاناتهن في سبيل خدمة عوائلهن والمجتمع والوطن إلا حافزاً رائعاً وتشجيعاً لأمثالهن من البنات والأمهات اللواتي لم يكتب لهن التعليم في الصغر لسبب أو لآخر حيث وقفت تخاطب الحاضرات من الأمهات المكرمات فقالت : إن كل أم من هؤلاء الأمهات ملكت الطموح والإرادة لطلب الأفضل و طريق التعلم و المعرفة هو الأفضل للفرد و للمجتمع وأكدت السيدة أسماء الأسد أن محو أمية الكلمة المقروءة والمكتوبة ليست غاية بحد ذاتها و إنما هو مدخل ووسيلة لتمكين الفرد من التعلم و تطوير القدرات و اكتساب المهارات في عصر تتطور فيه العلوم و التقنيات بسرعة و قالت نحن نتجه إلى هذا و نركز عليه بثقة وإصرار. 

وتابع الشيخ عبد الغفور حديثه بأن تعليم المرأة ومحو أميتها أساس لبناء العائلة وتنميتها لتأخذ دورها في تعلمي أبنائها وبناتها ومساعدة زوجها في أعباء الحياة، فضلاً عن أن الاستثمار في تعلیم المرأة یعد أفضل استثمارٍ تربويٍ، لما لذلك من انعكاساتٍ إیجابیةٍ على حیاة المرأة نفسھا، وعلى أسرتھا ومجتمعھا، والحیلولة دون تسرب الفتیات من التعلیم النظامي، والقضاء على عوامل الهدر التربوي رسوباً وتسرباً ونوعیةً، وأهمية تربیة الأطفال في الطفولة المبكرة ودور الأمهات في هذه التربیة نظراً لأهمية الطفولة المبكرة في بناء شخصیة الطفل، وفي المراحل التالیة من حیاتھ، والانفتاح على روح العصر والتزود بالمهارات والكفایات التي تساعد الإنسان السوري على التفاعل الإیجابي البناء مع روح العصر من تعلمٍ ذاتيٍ مستمرٍ وتفكیرٍ علميٍ، وانتماءٍ إلى أمتهم، والتحلي بقیمھا العربیة الأصیلة في عصر العولمة حفاظاً على الذاتیة الثقافیة، مع الحرص على تربیة الإبداع والتفكیر النقدي الابتكاري استجابةً لمقتضیات العصر، وثوراتھ العلمیة والتقنية.

وختم الشيخ عبد الغفور حديثه بالقول : أنا بمفردي قليل ووحيد لكن ضمن المجتمع نصبح كلاً متكاملاً وتكون لنا بصمة إيجابية في البناء والتنمية وهذا موجود في الشريعة الإسلامية بمصادرها المتنوعة فإذا لم نكن معاً يكون الفعل قليلاً ومبعثراً، و لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتكافل ونتضامن في عملية بناء المجتمع وتنميته وخير دليل على ذلك ما فعله صلى الله عليه وسلم عند هجرته إلى المدينة المنورة من إخاء بين المهاجرين والأنصار وبناء للمسجد حيث جعل منه مصدر التنمية الحقيقية ولرجال الدين دور مهم في نشر ثقافة التنمية وغرسها في مجتمعنا الذي يشهد تطوراً متزايداً واهتمام السيد الرئيس بشار الأسد بدفع حركة التنمية إلى الأمام كان لزاما ًعلى كل فرد في هذا المجتمع بكافة شرائحه التعاون الجاد والمثمر للوصول إلى ما يطمح إليه كل مجتمع متقدم في العالم لقوله تعالى "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " صدق الله العظيم ..

المصدر
زهرة سورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى