تحقيقات

رمز من الماضي .. العراضة الدمشقية وأهازيجها جذر في قلب دمشق القديمة وزمرتها الدموية

ولدت العراضة الشامية من رحم دمشق القديمة، فهي تحمل رائحتها، بدئاً من لباسها، ونهاية بأهازيجها, كما أنها موجودة منذ أكثر من مائة عام …

حيث كان أبناء الحي الواحد يخرجون في المناسبات ، سواء كانت اجتماعية أو وطنية ، وبشكل عفوي يقدمون أهازيجهم الحماسية ، بحناجرهم الحادة ، للتعبير عن تلك المناسبات ..

العراضة سجل تاريخي ..

هذه الأهازيج المستمدة من التراث الشامي العتيق تعد موروث شعبي غني ؛ حيث تجمع الكثير من العادات القديمة والتقاليد ، كما أنها بمثابة سجل تاريخي حافل سواء بالأمثال القديمة التي بدأت تندثر ، والأغاني القديمة بعدما أصبحت اليوم مقتصرة على فرق العراضة ؛ حيث تحولت إلى مهنة لها مكاتبها المعتمدة ، وأعضاءها من أبناء الحارات الشعبية ، الذين امتهنوها ، بينما لازال هناك من يمارسونها كهواية إلى جانب عملهم الخاص .. 

العراضة في معاني عدة ..

لا يوجد معنى واحد محدد لهذه الكلمة ، فالبعض يقولون أنها نوع من الصوت العريض، والبعض الآخر يقول بأنها من (العرض) أي العروض المقدمة , إلا أنها في الغالب مستمدة من ( المعارضة ) ؛ حيث كان الناس أيام الاحتلال الفرنسي يخرجون في ثورات مناهضة ، لدعم المقاومين وثوار الغوطة آنذاك ..

الطقوس الغنائية الدمشقية عفوية ..

علقت الباحثة الموسيقية ( إلهام أبو السعود ) على الفلكلور الشعبي معتبرته جزء من تراث الشعب السوري ، مشيرة إلى أن مادته العلمية تمكن من تعرف نفسية وأخلاق وعادات وتقاليد وأعراف وفنون هذا الشعب ، ومأثوراته الشعبية ، مضيفة أن " الأغنية الشعبية معظمها مجهولة الهوية ، لا يعرف مؤلفها وملحنها ، لأن الشعب هو الذي أبدعها، وعاش بها ، وتمثل فيها " ..

عراضة السبع ناكارات ..

في جولتنا على بعض فرق العراضة في دمشق تحدث " أبو هاشم النن " صاحب أحد فرق العراضة في دمشق القديمة قائلاً ..

" تعلمت العراضة الشامية منذ كان عمري 11 عاماً , حيث كنت استمتع بالمقولات التي تردد عند زفاف العريس، كما كنت أحفظها , والآن أنا أعمل بها ، ليس لأنها مصدر رزق بالنسبة إلي ، لكنها تعبر عن عاداتنا القديمة ، وتذكرني بأجدادي ، في حين يعد " أبو بدر / رئيس أحد الفرق " أن العراضة مصدر رزقه ، وتعلمها بعد أن جرب ( السبع كارات ) ، ولم يفلح فيها ، ويضيف : " أن كل ما نحتاج إليه للعراضة بضع شباب ، وصوت عريض ، وبعض الأدوات والملابس " .. 

العراضة العفوية زمرة دموية ..

في أي مناسبة سواء كانت اجتماعية أو وطنية يخرج الناس ويرددون الأهازيج ، أما اليوم أصبحت منظمة ؛ حيث تختلف الأهازيج حسب المناسبة وحسب الموقف ، فهي كزمرة الدم تنتقل من الأجداد إلى الآباء، وبالتالي من الطبيعي أن يراها الأبناء كأي عمل يدوي آخر، مثل النحاس والسيوف والزجاج، تعكس البيئة التي نشأت فيها ..

تنظيم فرقة العراضة ..

تتألف الفرقة من رئيس أو ( الوصّيف ) وعدد من الأعضاء ( الرديدة ) ، ومن بينهم العازفون ؛ حيث لا يوجد عدد محدد لهم، لكنه لا يقل عن 12 شخص ..

آلات عراضة هودجها ..

في القديم لم تكن آلات العزف كثيرة ، وإنما كانت تقتصر فقط على ( المزهر ) ، إضافة إلى تصفيق أهل الحي ، أما اليوم فهناك إضافات عديدة على آلات العزف، مثل الطبول, الطور بين ( المزمار النحاسي ) ، والدربكة ، أما بالنسبة إلى أدوات العرض ، مثل سيوف العرض ، والمشاعل فزينت عراضات اليوم ، وكذلك فكرة الهودج " بدوية الأصل " طبقت بداية القرن ، حيث يوضع العروسان على الجمل ، أو ( الحنتور ) الذي يعد عبارة عن عربة يجرها حصان ؛ إذ كانت تستخدم أيام الرومان ..

لعبة القبضايات ..

لا تخلوا أي عراضة من لعبة ( الحقم ) ، وهي عبارة عن خيزرانة تحمل باليد اليمنى ، والمخدة تحمل باليسرى ؛ حيث كانت قديما يلعبها الشباب لاختبار القوة ، وفكرة ( السيف والترس ) ، نفسها لكن أدواتها مصنوعة من الحديد ، فهي أكثر خطورة وتحتاج إلى تدريب مسبق ، كما تتعدد أنواع الضربات ، فمنها ضرب الكحلة ( القرب من العين ) , وضرب الجام ( جانب الفم ) , وضرب الباط , وضرب صرة ..

الخيّالة سادة العراضات ..

الخيالة أعضاء في الفرقة، يتميزون بلباسهم الخاص، الذي يتألف من بنطال يطلق عليه تسمية ( غولد ) ، ويميز أنه ضيق من الأسفل حتى الركبة ، ومن فوق يصبح منفوخ من جنبيه ، كما يزود بجزمة خاصة ، وصدرية وعقال وكوفية , وبالتالي يرقص الخيال مع خيله على إيقاع الطبول في لوحات استعراضية ترمز للرجولة والأصالة ..

توقيع رسالة العهد ..

هي فكرة جديدة أدخلتها بعض فرق العراضة ، وهذه الرسالة مصنوعة من جلد الغزال وريشة نسر ، ومحبرة قديمة ، وتتضمن الرسالة : " من فارس الفرسان .. إلى أمير الشجعان .. نبلغك السلام .. جئناك وجاؤؤك من كل مكان .. لنهنئك بالعرس الرنان .. ونهديك كتاب الرحمن .. ونلبسك لباس العرسان .. على سنة النبي العدنان .. والختام إلى أن توقع لنا هذا البيان " ..

العراضة الشامية إعلام بالفرحة ..

أشار الباحث في علم الاجتماع ( جهاد محمد ) أنه في القديم كان الهدف من إعلاء الأصوات وقيام العراضات ليلة الزفاف إخبار أهل الحي أن ابن فلان تزوج بنت فلان ، فلم يكن هناك ما يسمى ببطاقات الدعوى لحضور الفرح , وعموماً عرفت الأغنية الشعبية ازدهاراً على يد الفنان مصطفى هلال ، الذي عمل على إحيائها خوفاً من اندثارها ، مستعيناً في ذلك على كبار السن ، وحضور المناسبات الاجتماعية والوطنية آنذاك ..

زي العراضة ذكريات الماضي ..

الملابس العربية القديمة لها نكهتها الخاصة؛ حيث اقتبست العراضة هذا الزي واعتمدته كلباس موحد , يتألف من قطع عدة، يرويها " أبو بدر/ صاحب فرقة فرسان " : " الطاقية المحجرة المشغولة يدوياً تلبس في الرأس , أما الحطة التي تكون عادة من الحرير توضع على الرقبة , بينما الصدرية الشامية ميزتها أن رسومها ضيقة ، عكس الصدرية الحلبية والحموية , في حين توضع الشملة على الخصر , وبالنسبة للشروال فيكون طويل وعريض , والمشاية أو الكسرية ترتدى في القدم ، وهي سميت كذلك لأنها تكسر من جانبها الخلفي .. 

زي أهل عراضات الموضة ..

هناك بعض فرق العراضة طورت في الزي الشامي ؛ حيث ارتداء البناطيل الفرنسية الضيقة ، والجزمات بدل الكسرية ، ودل الحطة الُسُلك الأردني ، والبعض الآخر يضع الطربوش بدل الطاقية ؛ حيث كان يلبس من قبل ( الآغاوات ) ، مع ما يسمى ( القنباز ) ، وهو أشبه بالثوب الطويل ..

عرس بلا عراضة طعام بلا ملح ..

هذا رأي " محمد عبد النبي المقبل على أبواب الزواج ؛ حيث يقول : " كما تعلمت من والدي فإن هناك تقاليد يجب أن تتم ، ومن بينها إحضار العراضة ، التي دونها يبدو العرس وكأنه باهتاً ، فهي التي تضيف البهجة ، وتعطي حفل الزفاف جو خاص ، فالعراضة تجمع بين المرح والتسلية والعادات والتقاليد ..

بينما والد محمد ( أبو توفيق ) يقول : " لم تعد العراضة في أيامنا مثل ما كانت من قبل ؛ حيث اتسمت وقتها بالعفوية، وفي تردادهم للأهازيج التي لها نكهتها الخاصة, أما اليوم ففرق العراضة تؤدي هذه الأمور بغرض الكسب المادي، ومع ذلك تعد أمر لاغنا عنه ..

بالمقابل يقف "سعيد حاطوم" على ضفة الرأي المعاكس، كونه يرى أنه اليوم لا حاجة لفرق العراضة في الزفاف ، فهي ليست من الأمور الأساسية الآن، بعدما تطور المجتمع، حتى أصبح هناك حفلات مختلطة يحييها فنانون، فقدوم العراضة للزينة فقط" .

وتدللي يا عيني على عريس الزيني ..

هي عبارات قديمة تقال للعريس يوم زفافه، وتختلف باختلاف المكان الذي يوجد فيه، فعند تلبيس المحتفى به لثياب الزفاف يقال له: " يا عريس ولا تعبس.. أفرد من جوخك والبس.. لتفرعلوا.. لتفرعلوا يا صبية.. للقميص وللطاقية"، أما عند قدوم الحجاج فيقال" "حجاجينا.. حجاجينا.. زاروا مكة ودعوا لينا"

أهازيج جديدة بنكهة قديمة ..

كل فرقة عراضة تسعى إلى إضافة شيء ما لتبرز هويتها، وتمييزها عن العراضات الأخرى، وكلها تصب في العادات والتراث القديم، ومن الإضافات التي قدمها "أبو هاشم النن": "عز الشام.. بالإسلام.. عمارة وباب السلام.. لرقية أحلى مقام.. عمارة وقيمرية.. من الأموي ليهم تحية.. قيمرية يم الحارات.. سلميلي عالنقاشات.. أهلها أصحاب الرايات.. بالشاغور مجتمعين.. الله يحييكي ميدان.. كلك نشامة وفرسان..

هل ستنتهي العراضة يوماً ما؟

أجاب عن هذا السؤال "أبو هاشم النن" بقوله: "طالما أن هناك اهتمام بها من قبل أبناء المهنة، لن تندثر، والشيء الوحيد المهم أن تحافظ على أصالتها، ولا تطغى التحديثات الجديدة على الجوهر، فالأمل أن تكون العراضة حرفة معترف بها من قبل الدولة، خاصة بعد دخول العاطلين عن العمل، الذين لا يعرفون سوى "الصوت العالي" وبالتالي لا يستطيعون الإبقاء على هويتها الدمشقية القديمة، وعدم ضياع أصالتها، إلا بتدخل جهات معنية تُعنى بإقامة تنظيم أو نقابة، مثلما أصبح هناك الكثير من النقابات للحرف اليدوية القديمة".

بواسطة
اسامة مكية
المصدر
زهرة سورية / دمشق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى