مقالات وآراء

العلمانية ترف سياسي أم ضرورة مجتمعية

أيها الأخوة والأخوات
أيها الحضور الكريم في البداية اسمحوا لي باسمي وباسمكم ، أن نترحم على شهداء وطننا الحبيب ، فالشهداء دوماً هم منارة نهتدي بها . منذ أن بدأت العلمانية في الظهور في المجتمعات ، ثار حولها جدلاً واسعاً ولم يزل ، خاصة في مجتمع مثل مجتمعنا السوري ، المتعدد الأعراق ، والأديان ، والطوائف ، والمذاهب ، فهل العلمانية ممكن لها أن تكون الحل ؟؟ لن نناقش اليوم ظهور العلمانية ، نشأتها وتطورها ، لكننا سنناقش العلمانية كسلوك مجتمعي . العلمانية ليست نظرية دخلية على مجتمعاتنا ، بل هي نتاج من حضارتنا التي نورت ولزمن طويل حياتنا وحياة الآخرين ، فقد أبدع ابن رشد وابن خلدون في طرحها وغيرهم كثر ، بل أكثر من ذلك دفع ابن خلدون حياته ثمناً لها . لم نستطيع أن نرتقي في ذلك الوقت بها ، ولم نستطيع أن نطور مجتمعاتنا بها ، إلا في فترات قصيرة ومحدودة ، ومن أهم أسباب ذلك كان تحالف كل من الاستبداد السياسي مع الاستبداد الديني ، ليبقى المجتمع محكوماً منهما . لكن أوربا أخذت هذه العلوم التي أبدع فيها فلاسفتنا العرب وترجمت نصوصهم وأسست معظم نهضتها على هذا الأساس . واستطاعت أوربا رغم الشتات الذي كان يلفها بالكامل ( عرقياً وديناً ومذهبياً ) والذي لم تزل بعض صوره موجودة حتى الآن ، نعم استطاعت أن تنهض من جهلها وتخلفها بسبب سمو علاقتهم الوطنية كشعوب على علاقتهم ما قبل الوطنية ببعضهم البعض . ولن أطيل في شرح هذه النقطة ولن نغرق بتفاصيلها ، فقط أريد أن أوضح نقطة واحدة مهمة جداً ، وهي الأخطاء التي وقعنا فيها نتيجة ترجمة نصوص هذا السلوك ، وكيف تم استخدام هذه الترجمة الخطأ ضد العلمانية وضد نهضتها . إن جناية ترجمة المصطلحات خطأ ، تبدأ باستعمال هذا المصطلح بالكسر استعمال ينطوي على قدر كبير من الخطأ والتدليس فيه ، أما انطواؤه على الخطأ ، فلأن الكلمة في جذورها الأوربية لا علاقة لها بالعِلْم ، فنسبتها إلى العِلْم نسبة خاطئة لإثبات الصلة بين العِلْم وبين هذا التعبير في جذوره الأوروبية ، وأما انطواؤه على التدليس والإيهام ، فلأن في نسبة هذا التعبير إلى العِلْم ما يحجب حقيقة المعنى الذي يتضمنه هذا التعبير ، ويُدخله في دائرة القبول العام ، خاصةً أن مجرد الانحياز إلى العِلم لا يعني أننا ننبذ الإيمان أو استبعاد الدين بالضرورة ، بل لابد لإبراز هذا المعنى من التحليل والتوضيح ، الأمر الذي تأباه طبيعة المصطلحات . إن مصطلح العلمانية يعني فصل المعتقدات الدينية عن السياسة ، وإطلاق الحريّة لأفراد هذا المجتمع لاعتناق أي معتقد وعدم إجبارهم على تبنّي أية عقيدة أو مذهب بعينه ، وليس فصل الدين عن الحياة العامة للمجتمعات . إن العلمانية هي عبارة عن موقف ومبدأ وواجب إنساني يرتكز على أعمدة ثلاثة هي : أولاً : الوسائل المادية ( الملموسة ) ، بالدرجة الأساس : وهي التي تضمن تحسين حياة الإنسان وتطوير نوعيتها ، ولا يكفي الاعتماد على الاعتقادات الروحية وحدها في انتشال الإنسان من براثن بؤس الحياة وفاقتها وقسوتها وويلاتها. ثانياً : العلوم وتطورها : كذلك إن العلوم هي السبيل الأول الكفء لإنقاذ الإنسان وإعانته في كفاحه الدائم في الحياة ومؤازرته في مسيرته نحو الأفضل ، وهي بهذا تشكل البديل الأكثر منطقية وعقلانية من الاعتماد على “العناية الإلهية ” فقط . ثالثاً : الناحية الإنسانية : إن عمل الخير يجب أن يكون واجبا إنسانيا يُمليه الضمير الحر ، وتُفرزه القناعة ، ولا يفترض فيه أن يكون ناجما عن الخوف من عقاب الله أو لغرض زيادة رصيد الحسنات للفوز بالجنة . فالعلمانية هي خلاصة تجارب البشرية ، وثمرة نضالها الطويل ، وتضحياتها الغالية من أجل ، التحرر ، والتقدم ، وكما عرفت البشرية طريقها إلى العلم ، واستطاعت من خلاله أن تكتشف الطبيعة وتسيطر عليها ، وتسخرها لتلبية حاجاتها ، وتحقيق مطالبها ، عرفت البشرية طريقها إلى العلمانية ، وأقامت عليها الدولة الوطنية الحديثة ، التي انفصلت عن إمبراطوريات العصور الوسطى وسلاطينها الدينية . ومع تقدم الحضارات ، وخروج الناس من عزلتها ، ودخولها في العصور الحديثة ، واكتسابها معارف وخبرات لم تكن متاحة لها من قبل ، وتحولها من قبائل وعشائر إلى أمم وشعوب ضاقت بالعبودية ، وعرفت أن لها حقوقا يجب أن تستردها ، ومصالح يجب أن ترعاها ، وهي لا تستطيع أن تسترد حقوقها ، أو ترعى مصالحها إلا بالعمل المشترك الذي يجب أن ينخرط فيه كل أبناء الأمة ، على اختلاف عقائدهم ، ومذاهبهم ، وطبقاتهم ، ومستوياتهم ، فالعمل الوطني المشترك هو وحده السبيل إلى ، الحرية ، والتقدم ، وتلك هي العلمانية والتي شعارها الصحيح والناصع دوماً وأبداً : الدين لله ، والوطن للجميع نعم إن الدين ضمير ، وهو علاقة بين الإنسان الفرد وربه ، وبالتالي فعلاقة الإنسان مع خالقه هي علاقة شاقولية ، أما علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان فهي علاقة أفقية بين أبناء الوطن الواحد المتكافئين في الحقوق والواجبات . ذلك لأن الوطن هو ملكية مشتركة ، وساحة نواجه فيها تحديات الحياة ، ونتغلب عليها معا ، والفصل إذن بين النشاط الديني والنشاط الوطني مبدأ أساسي في النظم الديمقراطية ، لابد من احترامه حتى لا يستغل الدين في السياسة ، ولا تستغل السياسة في الدين . ولذلك حين أقف بين يدي الله لا أكون مسئولا إلا أمامه سبحانه وتعالى ، أما في النشاط الوطني فأنا مسئول أمام غيري من المواطنين . كذلك إن الدولة الدينية تفرض على رعاياها عقائد حكامها ، وتسخرهم لخدمة مصالح هؤلاء الحكام . أما الدولة العلمانية فيجب عليها أن تضمن لمواطنيها حريتهم وحقهم في أن يفكروا لأنفسهم ، ويختاروا حكامهم ، وينموا قدراتهم ، ويصححوا أخطاءهم ، ويعالجوا مشاكلهم ، ويقفوا متساوين أمام القانون الذي لا يميز بين النساء والرجال ، أو بين الأغنياء والفقراء ، أو بين البيض والسود ، أو بين جميع أبناء الوطن الواحد على اختلاف ، قومياتهم ، وأعراقهم ، وأديانهم ، ومذاهبهم . نحن نريد دولة ليس لها أي صفة دينية ، فالدولة باقية لا تذهب إلى الجنة أو إلى النار ، لكنها هي إما أن تكون جنة المواطن أو ناره . نحن نريد دولة تكون محايدة تجاه جميع مواطنيها ، يسودها العدل في كل مناحي الحياة ، ابتداءً من توزيع الثروة إلى توزيع السلطة إلى إقامة مؤسسات تكون في خدمة المواطن لا تكون عبئاً عليه . ومن هذا المبدأ نجد أنه : ( ليست وظيفة الدولة أن تضمن لمواطنيها دخول الجنة ، وإنما وظيفتها أن تضمن لهم حق التعليم ، والرعاية الصحية الكاملة ، وتأمين كل مستلزمات العيش الكريم ، وحمايتهم وحماية أمنهم وممتلكاتهم ، تاركة لهم حريتهم الكاملة ، في أن يفكروا ، وأن يعبروا عن آرائهم ، وأن يمارسوا شعائرهم الدينية كما يحبون وكما يشاؤون ) . إن حرية الاعتقاد مكفولة في الدولة العلمانية ، والذين يزعمون أن العلمانية تعادي الدين هم ليسوا على معرفة كافية بمفهومها ، فالعلمانية هي المبدأ الذي يمكننا من الإخلاص لعقائدنا الدينية من ناحية ، ولواجباتنا الوطنية من ناحية أخرى . ومع كل ذلك فلا أقول إن الدين ليس ضروريا في حياة مجتمعاتنا ، حتى ونحن نطبق العلمانية ، فلا يمكن أن يسموا أي مجتمع دون أخلاق حسنة ، والدين يحض على حسن السيرة والسلوك .. ولا علمانية دون تطبيق شرع الله كما ورد في الأديان على حقيقتها لا كما يجتهد المتدينون . وهذا ليس تناقضا فيما أوردنا ، فأن تكون متدينا وعلمانيا في الوقت نفسه يعني أن ترتبط أسس العلمانية بترتيب البيت الديني مع ما يوائم العصر ، وإلا تتحول العلمانية إلى غابة يفعل الإنسان فيها ما يشاء دون رادع ، ولقد فرق رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بين النبوة والقومية ( ولو إن ذلك يبعدنا قليلا عن الموضوع الرئيس ) ، من خلال الآية الكريمة التي تقول : ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا ) ، والآية الأخرى ، ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ، فالآية الأولى تتدثر بالقومية ، والثانية تعطي معنى للنبوة في امتدادها العالمي ، والعلم والدين سويا هما الأساس في هذه الحياة . ولم يرد في النصوص على ما اعلم بأن نبيا من أنبياء الله قد سفه الطب أو الثقافة أو العلم أو ما ينفع الإنسان في دنياه ، وهكذا تتعدد تعريفات العلمانية بتعدد زوايا النظر والخلفيات الفكرية والثقافية ، وأيضا بتنوع الحقول المعرفية التخصصية ، فالفلاسفة يركزون في قراءتهم للعلمانية على أبعادها النظرية والأخلاقية ، في حين يتناول حقل علم الاجتماع أبعادها الاجتماعية والسياسية . وهنا قد يرى البعض أو حتى الكثيرون أن العلمانية ليست حلا للبطالة ، وليست حلا لارتفاع الأسعار ، وارتفاع إيجارات المساكن ، وبقاء الأجور على ما هي عليه ، لكن هؤلاء الذين يتحدثون عما نعانيه في حياتنا العملية لا يرون المرض ، ولأن الرؤية في هذه الحالة تكون قاصرة محدودة ، فردود الأفعال غريزية تعصبية لا وعي فيها ، والطريق يبدو أمامنا مغلقا بلا أفق ، والخديعة فيه سهلة ، ونحن معرضون لأن نضل ونتوه بل لقد تهنا بالفعل ، فبدلا من حل نشارك جميعنا في البحث عنه ، يحدثنا بعضهم عن حل سحري جاهز يقدمه لنا من يزعمون أنهم الناطقون وحدهم باسم الوطن ، المفوضون وحدهم لأن يحكمونا ، ويفرضوا سلطانهم علينا ، بدلا من إصلاح ديمقراطي حقيقي ، تستعيد به الأمة حقوقها ، وتعود به مصدرا للسلطات ، وتنصرف لمواجهة مشكلاتها الفعلية لتراها في حقيقة أمرها وحقيقة حجمها ، وتنخرط فيه بكل طاقاتها ، وتتابع من خلال مجالسها النيابية وإعلامها الحر ما يحدث ، وتراقب كل شيء ، وتحاسب كل مسؤول يخطئ ، وتعالج بفهم وحزم كل ما يقع من خطأ أو تقصير . بدلا من هذه المواجهة العاقلة المضمونة النتائج سرنا في الطريق الذي يباعد بيننا وبين الحل ، ويسمح لمشاكلنا بأن تستفحل وتتعقد ، وتلتف ، وتضيق علينا الخناق ، فلا نملك حينئذ إلا الاستسلام لمن يستغلون ما نحن فيه ، ويدفعوننا إلى أسفل المنحدر، فنزداد شعورا بالعجز والخوف ، حيث يقدمون لنا التطرف علاجا للتخلف ، ويرفعون لنا شعارات تبدو براقة وهي ليست أكثر من أوهام . بدلا من أن نقوي جبهتنا الداخلية ، ونستعيد ثقتنا بأنفسنا ، ونزداد تكاتفا وتلاحما ، ونستأنف السير في طريق النهضة ، ونؤكد استحقاقنا للديمقراطية ، وإيماننا بالعقل ، وحاجتنا للعلم واحترامنا لحقوق الشعوب . بدلا من أن نصارع التخلف ، ونتخلص من الأمية والطغيان ، نسمح للأزمة بأن تشتد ، وللمستفيدين منها بأن ينالوا من شعورنا الراسخ بالانتماء ، ويصيبوا وحدتنا الوطنية بالتصدع ، ويبذروا فينا بذور الفرقة ، والكراهية ، وهكذا تتحول مشكلاتنا المادية إلى أزمة أخلاقية ومعنوية خانقة . نحن نتساءل الآن عن مستقبلنا السياسي ، الذي بتنا لا نراه بوضوح ، ولا نعرف كيف نسهم في رسمه وبنائه ، وحيث أن الفساد لا يزال يستشري ، والناتج الثقافي والتعليمي يتراجع ، والعنف يزداد ، والفتنة الطائفية يخيم شبحها فوق رؤوسنا… لا بل أكثر من ذلك حيث دخل الوطن في حرب حقيقية وقودها أبناؤنا فقط ، حتى انتهينا إلى ما نحن فيه الآن ، فهل العلمانية هي ترف أم حاجة مجتمعية ؟ إن العلمانية في حقيقتها ليست موجهة ضد أي معتقد أو مذهب ديني أو غير ذلك ، فهي ليست دينا آخر ، ولكنها وسيلة لتنظيم العلاقة بين السياسي والديني . وهنا نعتقد بأن العَلمانية ستظهر لتؤسس لنهضة فكرية كبرى ، أساسها توفير مبدأ أو قاعدة أخلاقية سياسية ، تتيح للمجتمعات المتحلِّلة والمتفجرة بناء الوحدة السياسية ، مع الحفاظ على التعددية ، والاستمرار في الحوار حولها والمناظرة من دون الانجرار وراء حرب أهلية لا تبقي ولا تذر . وليس هذا المبدأ بالخطير ، الذي يكاد في نظري يساوي فقط احترام حرية الضمير، بما تعنيه هذه الكلمة من حق اختيار العقيدة والتعبير عن الرأي والدفاع عن الفكر المختلف . ومن هذا المبدأ وما يتضمنه من اعتراف بأصالة الضمير وتحريم انتهاكه ، لأيِّ فرد ، سوف يُشتق مبدأ المساواة بين الأفراد ، بقدر ما يتحولون جميعًا إلى أفراد أحرار وعاقلين ، أي يملكون جميعًا ملكة الضمير والوعي والتفكير . ولأنهم متساوون ، عليهم أن يقروا لأنفسهم ، ولكلِّ واحد منهم ، بحقوق واحدة أمام القانون ، بصرف النظر عن اعتقاداتهم ومذاهبهم وظروف معيشتهم ، وأن يكونوا مشاركين في تقرير مصيرهم الجماعي ، أي في قيادة الدولة والمجتمع . إن العلمانية أصبح وجودها ضرورة حتمية ، يجب توفرها لنشوء الدولة الديمقراطية الحديثة ، فلا يمكن لنا أن نجد دولة ديمقراطية هي غير علمانية . ولأن الأساس في المواطنة هو انتماء المواطن إلى الدولة والخضوع لقوانينها المدنية ، على عكس الدولة القديمة التي كانت تقوم على الانتماء الديني ، فإن فصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية ، يهدف في الأساس إلى حماية فكرة المواطنة وترسيخها ، أي حماية أحد أبرز الأسس الضرورية جداً للدولة الديمقراطية الحديثة . ولما كان الأمر كذلك ، فالعلمانية تصبح شرطا لا بد منه للانتقال من دولة الأديان إلى دولة الأوطان ، ومن دولة المتدينين إلى دولة المواطنين ، ولذلك قلنا إنها ضرورة مجتمعية ماسة وليست ترفاً سياسياً نرجوه . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السويداء 13 آب 2013

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى