مقالات وآراء

يزعمون أنهم شعراء ؟!

رغم زحمة الأعمال والأشغال تتاح لنا بين الحين والأخر فرصة مطالعة بعض الدوريات والصحف العربية والتي تنشر قصائد شعرية بالجملة فإذا أحصينا أسماء قائلي هذه القصائد يتملكنا العجب من كثرة عددهم فلم يعرف عصر من عصورنا السابقة مثل هذا العدد الضخم من الشعراء
وفي سورية وحدها عدد لا يحصى منهم وقد أجريت في بلدنا سابقاً الكثير من المسابقات الشعرية في مختلف المناسبات وعلى مختلف المستويات وأحمد الله أنه قد أتيح لي أن أحضر بعضها فلم أملك نفسي من العجب والإعجاب بوجود هذا العدد الغزير ممن ينظمون الشعر .
منهم من يقول الشعر المزون الخليلي ومنهم من يقول شعر التفعيلة والباقي يجنح إلى الشعر الحر الخالي من قيود الوزن والقافية .
على أنني حين قرأت هذا الشعر أصبت بخيبة أمل بالغة إذ كنت أمني النفس أن أجد بين هؤلاء الشعراء طائفة كبيرة جديرة بأن يطلق على أصحابها ( شاعر ) ولو تحقق هذا الأمر لكان ظاهرة صحية تملأ النفس غبطة وإبتهاجاً ذلك أن فئة من النقاد تذهب إلى أن زمن الشعر قد ولى ولم يعد يلائم العصر الذي نعيشه … عصر التقدم العلمي والتقني المتسارع .
ولكن من المؤسف أن من يستحقوا شرف الإنتساب إلى مملكة الشعراء هم فئة قليلة وإن كثرة من تصدوا لنظم الشعر في هذه المناسبات سواء أكان شعرهم موزوناً أو غير موزون لا يملكون قدراً يسيراً من المواهب الشعرية فعجبت كيف يجروء هؤلاء على عرض ما خيل إليهم أنه شعر على الملأ بل إن نفراً منهم يأبى إلا أن يذيل منظومته ( ولا أقول قصيدته ) التافهة بإسمه مقروناً بكلمة ( الشاعر ) وعندما تقرأ منظومته لا تجد فيها معنى مبتكراً ولا لفظاً منتقى ولا خيالاً ولا أسلوباً محكماً فهي عارية عن أي المقومات الشعرية ومن إتجه إلى الشعر الموزون جاء شعره مختل الوزن مضطرب القافية فتأسف حينئذ على إضاعة وقتك في قرأة كلام ليس أدنى حظ من الشعرية ..
نعم … لا ننكر أن في عامنا العربي ومنه سورية شعراءً فحولاً نفتخر بهم ونعتز بوجودهم وإذا قأنا شعرهم نحس بمتعة عظيمة وليس من لذة تضاهي لدى الإنسان العربي المثقف اللذة التي تبعثها في النفس قرأة الشعر الرائع .
وهواة الشعر يهتزون طرباً ونشوة لدى قراءتهم أشعار هؤلاء العمالقة فمن الإجحاف أن نقرنهم بمتسلقي صرح الشعر وإنه لصرح لو تعلمون ! شامخ يعانق السحب وأجواز السماء .
أيها القوم !
إن الشعر ليس دمية يتسلى بها العابثون الفارغون ولا لغواً أجوفاً يهذي به من حرموا الموهبة الشعرية إنه فن راق لا يطيق ولوج مملكته إلا من وهبته الطبيعة السليقة الشعرية المبدعة الخلاقة ومركب صعب لا يقوى على إمتطائه إلا أولو الجلد والمقدرة الشعرية حيث يقول أحد الشعراء القدامى :
(( الشعر صعب وطويل سلمه إذا إرتقى فيه الذي لا يعلمه زلت به إلى الحضيض قدمه ))
وقول الشعر لا يتأتى للشاعر في كل حين حتى لو كان من فحول الشعراء فالفرزدق وهو من فحول شعراء العصر الأموي يقول :
(( قد علم الناس أنني فحل الشعراء وربما أتت علي الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون علي من قول بيت من الشعر ))
ولصعوبة الشعر وندرة الشعراء المجيدين يذكرون أن القبيلة العربية كانت إذا نبغ فيه شاعراً إحتفلت بظهوره إحتفالاً عظيماً .
ولكي يقول المرء الشعر ينبغي أن تتوفر لديه أدواته والشرط الأول هو أن يخلق شاعراً أي أن
يكون ذا موهبة شعرية فطر عليها فليس الشعر علماً يؤخذ عن طريق الدراسة والبحث وإنما هو فن
لا تتأتى إجادته إلا للموهبين ونحن نرى أن ثمة أدباء وكتباً أعلاماً لم يخوضوا في ميدان الشعر لأنهم لم يؤتوا الموهبة الشعرية ونذكر من القدماء :
الجاحظ – أبي حيان التوحيدي – ابن قتيبة .
ومن المحدثين :
طه حسين – أحمد أمين – المنفلوطي .
فإذا توفرت للمرء الموهبة الشعرية لا بد من صقلها ورفدها بأدوات الشعر . وأولى هذه الأدوات إتقان اللغة العربية إتقاناً تاماً ليأتي أداؤه الشعري سليماً بريئاً من الهنات اللغوية والركاكة .
ولم يكن الشعراء القدامى والمجيدون من المحدثين ليقدموا على نظم الشعر وإذاعته للناس إلا بعد إمتلاكهم ناصية اللغة .
ثاني هذه الأدوات المعرفة التامة بأصول النحو وقواعده وبتصريف الأفعال تحاشياً لوقوعهم في اللحن والخلل النحوي ولا عذر لشاعر يخطئ في الأداء مهما يكن حظه من الموهبة الشعرية وقد تعقب نقاد الشعر والنحاة ما وقع فيه الشعراء من أخطاء نحوية وجعلوها من العيوب التي تنتقص من قيمة شعرهم .
وثالث هذه الأدوات حفظ قسط واف من أشعار العرب القدماء والمحدثين ليتمرس من يقول الشعر بأساليب الشعر ويحكم صياغته وأداءه وكان الشاعر لا يقدم على قول الشعر إلا بعد أن يقرأ جابناً كبيراً من أشعار من سبقوه .
وترى عن طائفة من الشعراء القدامى أخبار تدعو إلى العجب حول مقدار ما حفظوه من أشعار سابقيهم .
ولا بد بعد ذلك من الرجوع إلى الينابيع البلاغية والأدبية التي ترفد معارفهم وتوسع آفاقهم وتجعلهم يكتسبون المقدرة على الأداء الفني الرفيع وفي مقدمة هذه الروافد البلاغية القرآن الكريم الذي هو آية من آيات البلاغة المعجزة ولذلك كان الشعراء يبدؤون بقراءة القرأن وحفظ جانب منه قبل إقدامهم على قول الشعر .
وقد روى عن الفرزدق أنه قيد نفسه وأبى أن يفك قيده حتى يحفظ القرآن فهو معين إستقى منه جميع الشعراء والبلغاء العرب .
ومن يميل إلى النظم على طرائق القدماء فيؤثر الشعر الخليلي الموزون على شعر التفعيلة والشعر الحر لا مفر له من أن يعرف أوزان الشعر ويقف على علم العروض وأصول القافية ليسلم شعره من إختلال الوزن والقافية على أن من وهب ملكة الشعر وتمرس بقراءة دواوين الشعراء لا يحتاج إلى علم العروض لأن سليقته الشعرية تهديه إلى قول الشعر السليم من إختلال الوزن وكثير من الشعراء لم يكونوا على معرفة بعلم العروض .

بواسطة
أمجد طه البطاح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى