المنوعات

نت فيه أم كلثوم وعبد الوهاب وسعاد محمد.. مقهى شناتا أقدم شرفات اللاذقية البحرية ورحلة في حياة الناس تقارب المئة عام

تزخر ذاكرة أهالي اللاذقية بالعديد من الأمكنة التي احتلت على مدى سنوات طويلة حيزا واسعا من وجدانهم و من نبضهم الحياتي كجزء لا يتجزأ من إرث اجتماعي و ثقافي و فكري عزز حضورهم
الراسخ في هذه البقعة الساحلية و ربما يكون مقهى شناتا الموجود حتى اليوم على الكورنيش الشمالي للمدينة أحد أعتق هذه الأمكنة الجميلة بعد رحلة يمتد عمرها حاليا لما يقارب المئة عام.

ليس من قاطن في اللاذقية و محيطها لا يعرف “شناتا” و ليس هناك من معمر لا يختزن في مخيلته جلسات طويلة و مسامرات أطول قضاها على هذه الشرفة البحرية الآسرة والتي بنيت حسب العديد من المصادر في العشرينيات من القرن الماضي و تتسع مساحتها لما يزيد على 1500 متر مربع تغايرت تقسيماتها بين الأمس و اليوم لتستقر في السنوات العشرين الأخيرة على ثلاث صالات رئيسية إحداها مخصصة للنساء والعائلات و اثنتان للرجال.

وفي إحدى زوايا المقهى جلس حنا جبور “أبو باصيل” يحتسي كأسا من الشاي بينما يقلب أمامه أوراق الشدة ليرفع رأسه بعد قليل و يبدأ بسرد ذكرياته عن شناتا و الذي واظب على ارتياده يوميا كما ذكر لأكثر من ستة عقود متواصلة عندما كان المقهى آنذاك يحتضن في الوقت نفسه أقدم صالة سينما و منصة مسرح في المدينة حيث يوءمه الرجال فقط و يمنع الأطفال و اليافعون وفقا لقواعد اللياقة الاجتماعية من الدخول إليه ..

وأوضح أبو باصيل أن المقهى في ذلك الوقت كان متصلا بالبحر مباشرة عبر شاطئء صخري خال تماما إلا من بعض المقاهي الشعبية الصغيرة التي يرتادها الصيادون خلال أوقات النهار للراحة أما شناتا فقد كان حينها مقصدا للزائرين من كل الشرائح الاجتماعية و الذين اعتادوا على ارتياده يوميا في مختلف ساعات النهار كمحطة تستوقف كل مار في مجيئه و ذهابه نحو أي وجهة لافتا إلى أن الفترة المسائية كانت على الدوام هي الأكثر ازدحاما وخاصة في شهر رمضان و أيام الأعياد حيث يغدو السهر في شناتا تقليدا اجتماعيا راسخا.

لقد كان الجلوس في شناتا آنذاك كما أكد واحدا من الطقوس اليومية التي أثرت حياة الناس وعمقت من التواصل الحميم بينهم عبر لقاءات يومية تتناول في موضوعاتها مختلف الشواغل و الهموم الحياتية إضافة إلى حيز من الترفيه و التسلية يقضونه في اللعب بالمنقلة و أوراق الشدة ثم طاولة الزهر في مرحلة لاحقة مضيفا أن الاستمتاع بمنظر البحر و الصيادين و المراكب الصغيرة لم يكن أقل متعة وخاصة مع احتساء الشاي والزهورات المنوعة و التي لم يكن سعر الكأس منها ليتجاوز آنذاك عشرة قروش.

أما المرحلة الأهم في تاريخ المقهى كما أشار الباحث سري حداد فقد انطلقت عندما بدأ شناتا باستقطاب نجوم الفن و رواده من لبنان و مصر ليصبح خلال وقت قصير مركز حراك ثقافي و ملتقى لأهل الفكر و الفن و الثقافة في اللاذقية لاسيما بعدما أحيت أم كلثوم برفقة محمد القصبجي ثلاث حفلات فيه اثنتان في 17 و 18 أيلول من العام 1931 و ثالثة في 22 حزيران 1933 امتدت كل منها حتى طلوع الفجر.

وأردف أن أمسيات أم كلثوم لقيت إقبالا واسعا من أهل اللاذقية رغم أن رسم الدخول إليها كان ليرة ذهبية و هو ما يعد مبلغا باهظا حينذاك حتى ان من عشاقها ما عمد إلى بيع أثاث بيته لحضور واحدة من هذه الحفلات التي خلفت أثرا كبيرا في نفوس أهل المدينة و بقيت محورا لأحاديثهم لسنوات طويلة استذكروا خلالها كل ما غنته آنذاك و منه يا آسي الحي و كم بعثنا مع النسيم سلاما و اقصر فؤادي و سواها..

كذلك حفز الحضور الفاتن لكوكب الشرق إلى شناتا كما ذكر حداد مخيلة الشعراء و الكتاب من أهل المدينة فخلد جمع من هؤلاء تلك الذكريات الفريدة بالعديد من القصائد التي نظمت في سيدة الطرب العربي و فنها الجميل و كان منها ما قيل في ذلك الحين على نحو ارتجالي أثناء هذه الحفلات لتشكل هذه القصائد مجتمعة اليوم جانبا مهما من تراث اللاذقية الأدبي ..

وأضاف أن المقهى استضاف في الأعوام التالية كذلك كلا من الفنان عبد الوهاب الذي أقام فيه عدة حفلات غنائية و مثله سعاد محمد و ليلى حلمي و سواهما مشيرا إلى أن مسرح شناتا لم يكن أقل شأنا عندما جمع بين جنباته قبل ذلك وتحديدا منذ العام 1928 و ما تلاه كلا من فرق فاطمة رشدي و أمين عطا الله و نجيب الريحاني حيث قدم الأخير مسرحية كشكش التي ذاع صيتها في تلك الآونة.

ولم تقتصر محطات شناتا الفنية كما أشارت العديد من المصادر التاريخية على هؤلاء النجوم فكان للمقهى شرف استضافة رائد المسرح العربي يوسف وهبي الذي قدم مع فرقته مسرحيتي الكابورال سيمون و أولاد الذوات و كان المسرحي زكي عكاشة قد قدم في وقت سابق من العام نفسه و على المنصة ذاتها أوبرا كليوباترا بمشاركة نجميها الرئيسيين المطرب صالح عبد الحي و الفنانة علية فوزي..

بدوره أشار فايز بيلونة 84 عاما إلى ما طرأ على المقهى و رواده من تغيرات خلال ستين عاما حيث بات اليوم أكثر بعدا عن الشاطئ بعد رصف جزء من البحر الذي صار مرسى للبواخر الكبيرة بدلا من المراكب الصغيرة التي كانت تتناثر فيه و يحلو للجالسين مراقبتها كما تعالت على جانبيه الأبنية التي بدأت بالازدياد منذ أربعينيات القرن العشرين و امتدت أمامه طريق إسمنتية تعج بالسيارات و المارة..

وصارت زبائن المقهى اليوم كما نوه أقل عددا بسبب انتشار المقاهي المماثلة و وسائل الترفيه المعاصرة في حين كان من الصعوبة بمكان فيما سبق إيجاد طاولة فارغة فيه كما تنوع الرواد حديثا بين رجال و نساء و شبان من أعمار مختلفة و لو أن الغالبية العظمى منهم بقيت من المسنين الذين اعتادوا على ارتياده لعقود طويلة فترى واحدهم يتأبط ذكرياته كل يوم إلى إحدى طاولات المقهى التي استبدلت كراسيها و متونها الخشبية بأخرى بلاستيكية فيجلس خلف الواجهة الزجاجية الحديثة مسترجعا في مخيلته صيحات الصيادين أسفل الجرف الصخري.

المصدر
الوكالة العربية للأنباء - سانا

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. على هذا الكورنيش قضيت طفولتي ….حتى اصبح الموج وصوت ام كلثوم في عمق ذاكرتي …كان بيتنا قرب شناتة …ولكنهم …بنوا المرفأ هناك …واشترى التجار باقي السواحل..لم يبق للفقراء سوى مغازلة البحر عن بعد ….الحمد لله ان ذكرياتنا غير قابلة للبيع …………………….

زر الذهاب إلى الأعلى