مقالات وآراء

حلبٌ مدينةٌ لن تموت

هذا الهوى في داخلي يُحييني…
ويُعيدُ فيَّ تبتُّلي ويقيني
هذا الهوى منها مدينةُ مولدي…
حلبٌ أعيه على المدى ويعيني
حلب المآذن والمصانع والبِنا…
حلبٌ معينُ الحُسنِ والتحسينِ
حلب المدينة الأبية الشامخة عبر العُصور، التي وُلدت منذ ثمانية آلاف عام وأخذت مكانتها في احتضان البشر والرقي بهم؛ إنها معلّمة الإنسانية معنى الكمال والجمال والنوال، حلب ومنذ الألف السادس قبل الميلاد تنفّست حضارةً ورُقياً وجمعت كل ما في الكون من محاسن الحياة، وقوتها.
لقد كانت هذه المدينة العظيمة "حلب" عاصمة للممالك التي مرّت عليها عبر التاريخ؛ فهي عاصمة مملكة "أرمان" التي دُمّرت فيما بعد من قِبل "الأكاديون" في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، ثم أصبحت عاصمة لمملكة "يمحاض" التي دُمرت على أيدي "الحثيين"، ثم استقرّت حلب لاحقاً في أيدي "الآراميين" كعاصمة لهم، وفي نهاية القرن التاسع عشر قبل الميلاد أصبحت حلب تابعة "للآشوريين". ثم سقطت بيد "البابليين" وسيطر عليها الفرس في نهاية العصر الحديدي. ثم فتحها اليونانيون على يد الإسكندر المقدوني في القرن الثالث قبل الميلاد، وصارت منذ منتصف القرن الأول قبل الميلاد وحتى القرن السادس الميلادي تحت حكم الرومان، وفي بداية القرن الـسابع غزاها الساسانيون لفترة وجيزة.
فتحها المسلمون في سنة (636م- 16هـ) على يد الصحابيين الجليلين أبي عبيدة عامر بن الجراح وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، وازدهرت في العهد الإسلامي، وكانت من أهم المدن في الفترة الأموية. وهي إلى ذلك قد ضمّت المسيحيين مع المسلمين جنباً إلى جنب وأصبحت حلب أبرشية، وأقيمت فيها كاتدرائية ما زالت قائمةً حتى اليوم.
وفي سنة (944م)، غدت عاصمة الدولة الحمدانية تحت حكم سيف الدولة الحمداني، حيث عاشت عصراً ذهبياً فكانت قبلة للعلماء والشعراء، وشهدت المدينة حينئذ ازدهاراً كبيراً في مجالات العلم والطب والأدب.
ثم مرّت حلب بالعهود المتوالية من الممالك إلى أن وصلت إلى عصرنا الحديث جمعت حضارات سائر البشر الذين عاشوا فيها وخرجت إلى هذه الدنيا بعظمتها الحضارية، تحافظ على مكانتها الكبيرة، المدينة التي لا تموت؛ إنها معشوقة الشعراء، ومسكن العباقرة، ومحراب الأتقياء، بقيت عصية على المعتدين تقاوم جوائح الزمان وطعناته المميتة، حيث مرَّ بها من استباحها ودمرها من مجرمي العصور كالصليبين، والتتار الذين صنعوا من جثث أبناء حلب الذين ذبحوهم أسوار وأهرامات.
ففي سنة (1259م) حاصر ملك المغول هولاكو مدينة حلب واقتحمت جيوشه المدينة وعاث فيها فساداً وقتلاً.
وفي سنة (1260م) حاصر هولاكو قلعة حلب ودمرها مع كل أسوار المدينة ومساجدها.
وفي سنة (1400م) حاصر سلطان التتار تيمورلنك حلب، وأحرق المدينة وقتل أعداداً كبيرة من أهلها.
وأما الزلازل فقد نالت حلب منها النصيب الكبير فقد مرَّ بها عبر تاريخها الموغل في القدم أكثر من عشرين زلزال مُدمّر أزهق أرواح مئات الآلاف من أهلها ودمّر مبانيها كان منها: زلزال سنة (1138م – 533هـ) الذي حوّل حلب لأنقاض وقد اعتُبر رابع أقوى زلزال في التاريخ دمرت على اثره حلب تدميراً كبيراً، وقتل اكثر من (230) ألف من أبناءها بسببه. وكذلك زلزال الخامس من أيلول سنة (1822م- 1237هـ) الذي وصل عدد الضحايا فيه إلى عشرين ألف ضحية. وكذلك زلزال (1854م- 1268هـ). وكذلك زلزال (1854م – 1268هـ)، وكذلك زلزال سنة ( 1884م – 1298هـ).
ورغم كل ما تقدم من الحروب والصراعات والكوارث الطبيعية التي حلت بها إلا أن الحياة كانت تعود للمدينة في كل مرة، لتصبح حلب أم الكون وشاغلة الدنيا. وكأن شيئا لم يكن. وكأنَّ حرباً وخراباً لم يكن.
وها هو عامٌ كامل قد مرَّ على تطهير أحياء حلب الشرقية من رجسِ الإرهاب والتكفير الظلامي، بجهود جيشنا الباسل والقوى الرديفة، بعد سنوات من الحرب والدمار مدينتنا العظيمة حلب الشهباء تنفض غبار الإرهاب عن جنباتها وتعود لتتعافى من دمارها تدريجياً؛ ذلك الدمار الذي لم يمر على مدينةٍ كما مرَّ عليها، تعود لتطبِّب جراحاتها وتمتدُّ قامتها في سماء الجمال السرمدي.
حلب صلة الشرق بالغرب وعاصمة طريق الحرير، تتماثل للشفاء في سوريتنا الحبيبة، سوريتنا بقيادتها الحكيمة التي صاغت العالم من جديد، وولدت فيها العروبة من جديد، وتكاملت فيها صفات الإنسانية العاشقة لمعاني الفضيلة من جديد

بواسطة
الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى