مقالات وآراء

مسلمين ومسيحيين على مائدة إفطار رئيس سورية ؟ بقلم المهندس باسل قس نصر الله

في مأدبة افطار اقامها في 11 نيسان 1957 رئيس الجمهورية العربية السورية آنذاك شكري القوتلي لكل رؤساء الطوائف الاسلامية والمسيحية، حضر هذه المأدبة البطريرك مكسيموس الصايغ مع ثلاثة من اساقفته. وكان حاضرا اكثر من 50 شيخا وعالما مسلما.
وفي جوابه على خطاب رئيس الجمهورية الذي شدد على التسامح الذي نص عليه القرآن تجاه المسيحيين، اجابه البطريرك الصايغ قائلا: "اننا نحن المسيحيين، سكان وطننا السوري لا نبخل بشيء، حتى بدمنا في سبيل خدمته. ومع ذلك نسمع من وقت الى اخر باننا كافرون ومشركون، ونحن لسنا بكافرين ولا بمشركين. بل بالعكس نحن، قبلكم جميعا نؤمن بوحدانية الله، وبفضلنا انتشرت هذه العقيدة التوحيدية. ونملك لائحة طويلة من شهداء ماتوا في سبيل هذه الوحدانية. هذا هو ايماننا. وايضا نأسف ان العروبة هي صفة يحتكرها فقط المسلمون، وفي القاموس عروبة تعني الاسلام ومع هذه النظرة يعمل المسلمون على حل كل مشاكل العرب. ان المسلمين يجب ان يفهموا اننا عرب. وكنا عربا قبل الفتح الاسلامي العربي، وقبل ظهور الاسلام". ولتبيان اهمية الاقليات المسيحية لاجل ازدهار سوريا ذكر البطريرك في هذه المأدبة، وسط دهشة الجميع، بأن السلطان سليم الاول العثماني جلب الى حلب اربعين عائلة مسيحية من لبنان، وبينهم الخبراء في التجارة والصناعة واسكنهم في حي خاص به ولا يزال يدعي حتى اليوم "بحي الاربعين". وذكر الحضور، في اخر خطابه بأننا نحصي بين المسيحيين الكثيرين ممن امتلكوا معرفة دقيقة وعميقة للدين الاسلامي، وتساءل هل يوجد بين العلماء المسلمين من تعمق في درس "الدين المسيحي".

لفتت اهتمامي هذه المعلومات ، ففي موائد الافطار الذي أقامها سيادة الرئيس بشار الاسد للعلماء المسلمين ، تساءلت لمذا لا يُدعى رجال الدين المسيحي الى الافطار الذي يقيمه رئيس الجمهورية، لقد مضت أكثر من خمسين سنة على آخر افطار حضره رجال الدين المسيحي . وعندما سألت أحد رجال العلم الاسلامي ، أجابني أن هذه أمور سياسية لا يخوض بها، فأجبته : سيدي متى كانت اللحمة الوطنية، التي تعلمناها والتي ننادي بها (وانا احدهم)، متى كانت اموراً سياسية ؟

نحن دائما بحاجة الى تقوية الروابط ، هذه الروابط التي خُلقنا ووجدناها تجمعنا، فنحن دائما علينا اصلاح الشبكة التي ننسجها، والتي صنعها أجدادنا قبلنا بمئات السنين، نحن دائما بحاجة – واليوم أكثر من أوقات مضت – الى الوقوف صفاً واحداً، سوريون برقعتنا الضيقة، وعرب برقعتنا الواسعة، انما مواطنون اولا واخيراً، للذود عن بلادنا ورموزنا الدستورية. فمن تراهم احفاد انطاكية سوى هؤلاء المسيحيين الموزعين اليوم في مختلف انحاء الشرق العربي (وسورية منها). فالواحد منهم هو مسيحي عقيدة ومشرقي قبلة، وانطاكي تاريخا وعربي مصيراً.

مضت فترات طويلة كنا أحيانا موضع تشكيك في عروبتنا (وهو موضع لا يمثل الاتجاه الرسمي بقدر ما يمثل بعض الاتجاه الشعبي) وهذا التشكيك وَلَد فينا ألماً دفيناً قد لا نتكلم به ولا نجاهر به، إنما نحس به ونلامسه، وهو ألم بدأ من بدايات القرن التاسع عشر، نتيجة تصرفات غير مسؤولة وغير واعية في بعضها الآخر، فلقد قدم جزء من المسيحيين اسهامهم في الثورة العربية الكبرى، التي قادها الشريف حسين في سنة 1916. لكن الاشتراك الفعلي لفئات واسعة من المسلمين في الحركة القومية العربية ادى الى "اسلمة" حتمية لهذه الحركة الامر الذي دفع جزءا مهما من المسيحيين للابتعاد مؤقتا عن انشطتها، علما أنه لا يجب أن ننسى أنه في مجلس ادارة الولاية (حلب) ايام الحكم العثماني، كان ينتخب نصرانيان مع ثلاثة مسلمين ويهودي واحد لتأليف هذا المجلس، وهم كانوا يدفعون الجزية الى الحكومة كضريبة تقابل اعفاءهم من الجندية وكانوا دائمي الشكوى والتذمر مما اعتقدوا بانه غبن واجحاف، ولهذا اغتبطوا وعمهم السرور عندما اصدرت الحكومة العثمانية في سنة 1910 اوامرها بالغاء البدل العسكري وتجنيد المسيحيين واليهود من رعايا الدولة، كما ان المسيحيين السوريين والمصريين كانوا قد لعبوا دوراً ريادياً مشهوداً في وضع الاسس والمرتكزات الاولى لحركة الوحدة العربية، استناداً الى مثل ومبادىء الحضارة الاسلامية وقيمها .

حتى الآن ، ومن خلال علاقاتي مع رجال الدين المسيحي وورجال العلم الاسلامي بمختلف طوائفهم، لا اعرف مسيحيين لا يدخل الاسلام في خطابهم اليومي ولا اعرف مسلماً على شيء من الترف العقلي او الخصب الروحي لم يقع تحت سحر عيسى او لم يُجرح بمحبته .

ان المسيحيين العرب ( والسوريون في مقدمتهم) يتحسسون الشدائد الواقعة على المسلمين (اليوم أكثر من أي وقت مضى) لانها واقعة على الناس، ولأنها واقعة على أخي وجاري وصديقي ورفيقي في المواطنة، ولأننا الطرف المهم في الاعلان عن شهادات عيشنا وحياتنا أمام العالم أجمع .

ومع ذلك نسمع بين الفينة والأخرى اتهاما من نفوس ضعيفة تتخفى في الظلام وتقبع تحت أغطية سميكة من عدم الوضوح والتلون والمحاباة، نسمع أطراف كلام مبتور عن التبعية للغرب والميل له، وأظن أن موقف فارس الخوري في عصبة الأمم، يجب أن يزيل الغشاء عن بعض العيون التي تفضل أن تبقى في الظلام.

وفارس الخوري وطني من الدرجة الاولى وكان يعتقد أنه ليس يكفي ان يُمثِل المسيحيين سياسيا من يحمل ظاهر المسيحية في هويته، وهو في واقع الامر يتصرف بخلاف الرسالة المنتدب اليها، بحجة توقد دهائه السياسي، وبحجة تعقد الاحوال الاقليمية والداخلية، وبحجة انفطار السياسة كل السياسة، على قسط كبير من المكر والتوسليه الماكيافيلية. ولأنه كان يمثل الوطن، رفعه أبناء الوطن الى منبر الجامع الاموي الكبير في دمشق.

ولن ننسى الزعيم الوطني ابراهيم هنانو أنه عندما بدأ يتكلم بصوت متهدج في الجامع الاموي بحلب، شدد على دور النصارى في النضال ضد الفرنسيين بعدما حاول الفرنسيون بث روح التفرقة الطائفية بينهم و بين اخوانهم. و من أقواله : (النصارى في بلادنا هم إخواننا في العروبة والوطنية لهم ما لنا وعليهم ما علينا، أنا اربأ بهم أن يعتبروا أنفسهم أقلية فهم أكثرية مثلنا، و كلنا نعيش في ضمان مشترك لا نحتاج معه إلى حماية أجنبية كما يدعي المستعمرون).

ولن ننسى مواقف الرئيس حافظ الاسد في اللحمة الوطنية التي لا مجال لذكرها في عجالة، ولا مواقف الرئيس بشار الاسد وزياراته في الاعياد عند الطوائف المسيحية.
كان اعتقادنا في السابق والحاضر والمستقبل، أن العلاقات بين الافراد لا يجب أن تتعلق بالدين، بل تقوم على اساس الحق الطبيعي المشترك بين جميع البشر في الوطن الواحد، كما نعتقد بان ضعف احدنا: مسلمين او مسيحيين، لا يعني قوة الاخر .

وكما قال السيد الرئيس بأن ورقة النعرات الطائفية هي آخر ورقة بيد الولابات المتحدة لتمزيق المنطقة، فنحن نتمنى ونصلي بأن يجتمع حول السيد الرئيس على مائدة افطار رمضان العام القادم، رجال الدين المسلمين والمسيحيين، ولندعوها حينها " إفطار الوطن " برئاسة رمز الوطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى