القضية الفلسطينية

الاسير رزق صلاح. بطل في زمن النسيان بقلم …مأمون شحادة

للارض ابطال من وراء الستار …حين صرخت الارض لبوا النداء… قالوا عار علينا ان تهان الارض ونحن نيام… كيف لنا ان نحيا وكرامتنا تهان… تركوا البيت والاهل والابناء، وقالوا اذا ضاع الوطن ما فائدة الحياة … فالحياة بدون الحرية والكرامة ليس لها طعم ولا عنوا
 

رزق صلاح*، بطل مناضل احتضنته مدينة الخضر في محافظة بيت لحم، وهي كغيرها من المدن الفلسطينية التي قدمت الشهداء والجرحى والمعتقلين، فمنذ نعومة اظفاره عرف بهدوئه وضحكته البهية، ما جعله يتربى على تلك الخصال التي اهلته لخوض كينونة النضال، حيث كان وخلال مجريات الانتفاضة الفلسطينية الاولى ناشطاً فاعلاً، ينفذ اعماله النضالية ضد الاحتلال سراً، حتى 
تم اعتقاله من قبل قوات الاحتلال الاسرائيلي عام 1993، فكان صدمة للجميع (لِما عرف عن رزق من هدوء) وخاصة حينما حكم بالمؤبد مدى الحياة، تاركاً وراءه ولدين وزوجة، واماً واباً قهرهم المرض والبكاء، حتى اتت سكرة الموت فاستثقل السجان الظالم "لحظة وداعٍ" يحتضن بها ابويه وهم يوارون الثرى . 

حيرة، وحزن، واشتياق لرؤية اخيها، هكذا بدت ملامح امنة علي خضر صلاح( اخت الاسير رزق صلاح "ابو احمد") مقدمتها اثناء الحوار الذي اجريته معها لتحدثنا عن المعاناة التي تعانيها اسرة اسيرنا، فقد لاحظت ان عيناها على اهبة الاستعداد لكي تهطل مطراً، لوعة وحسرة على اخيها رزق . 

سؤال : سيدة امنة صلاح، حديثنا عن الانطباعات التي اخذت تؤثر على عائلة مناضلنا رزق، وما هي الاثار السلبية التي خيمت عليهم ؟

امنة صلاح : ان لوعة الفراق تشبه الى حد كبير لوعة انسلاخ الروح عن الجسد، بما معناه "الموت"، فاعتقال اخي رزق اثر على كل العائلة، وخصوصاً عائلته الصغيرة 

سؤال : نود ان تحديثنا عن عائلته الصغيرة، والمكونة من احمد ورمزي وزوجته جهاد(ام احمد) ؟ 

امنة صلاح : في البداية اود الحديث عن ابنه احمد، حيث كان لحظة اعتقال ابيه ابن الثلاثة اعوام، وكان متعلق بوالده لدرجة لا يتصورها احد، فأسألته المتكررة والمتلعثمة ببراءة الطفولة قد كبرت بمرور سنتين على اعتقال ابيه، فكانت امه تتلقى تلك الاسئلة والدموع تنهمر من عينيها: ابي.. ابي، اريد ابي ؟ اين ذهب ابي؟ متى سيأتي؟ اشتقت اليه كثيراً، فقد وعدني بان يشتري لي لعباً 

وملابس جديدة، من سيحملني على ظهره ويداعبني؟ قولي لي يا امي ؟!؟! من الذي اخذ ابي؟ هل ستطول غيبته؟ اشتقت الى النوم في حضنه، واكتافه التي تحملني، قولي لي يا امي متى سيعود؟ . 

وطالت الايام وكبر احمد وبدأ يمل من الاسئلة وطول الانتظار، وادرك ان غيبة والده ستطول الى ان يشاء الله بالفرج، وها هو شاب في مقتبل العشرين ربيعاً، حائر في هذه الدنيا، يبكي بدون دموع،،، حينما تراوده الذاكرة بمنظر يعبر عن الابوة واولاد يلهون ويلعبون ويشكون لوالدهم، يبدأ الحنين يحاصر احمد، وكأن غصة في قلبه تقطر دماً. 

سؤال : ماذا عن ابنه رمزي، هل كانت انطباعاته مشابهة لاحمد ؟ 

امنة صلاح : رمزي لم يدرك معنى الابوة وحنان الاب، حيث كان عمره "سنة" لحظة اعتقال ابيه، تفتحت عيناه التي لم تكتحل برؤية والده حراً طليقاً، ولكن بمرور السنين اخذت تجتاحه هالة من التراكمات، التي تحتاج الى شاطئ من الاجابات، "فحواها" اسئلة عابرة يوجهها لامه: اين بابا ؟ ليش ما في الي بابا ؟ وين راح ؟ … عجباً، فالماضي يشبه الحاضر والسنوات تمضي، ورمزي 

يكبر مترافقاً مع تلك السنوات العصيبة، فهو الان طالب في الجامعة و لم يعرف والده الا من خلف القضبان، حينها ادرك الحقيقة وقبل بها، فاخذ يزين اوراق كراساته الجامعية بحروف مضيئة تحمل اسم ابيه، ما يعني انه يحاوره ما بين كراسته وعقله الباطني. 

سؤال : المرأة نصف المجتمع، والرجل هو النصف الاخر، فكيف استطاعت زوجة اخيك ان تجمع النصفين في آن واحد لحظة اعتقال زوجها ؟ 

أمنة صلاح : زوجة اخي " ام احمد" تلك الصبية الصغيرة، التي لم تتجاوز العشرين ربيعاً لحظة اعتقال زوجها، ففي البداية انهارت، وتعبت، وتحطمت نفسياً ومعنوياً لهول مصابها الجلل، لكن سرعان ما نهضت كالمارد، متحدية الظروف القاسية بصبر وحنكة، فابت الا ان تكمل المسيرة، لكي تكون انموذجاً لاولادها ( احمد ورمزي)، ونبراساً ينير عتمة السجن الذي يقبع فيه زوجها، 

فكانت اماً مثالية وقدوة وحضناً حنوناً لاولادها، ولم تنس يوماً "الحلم" الذي كانت تحلم به هي وزوجها بان يكون لهما بيتاً تجتمع فيه تلك الاسرة الصغيرة، حتى تحقق ذلك الحلم مترافقاً مع مسيرتها التعليمية، مجسدة في هذا الزمان معادلة انسانية، عواملها التحدي والصبر، ولوعة الفراق لزوجها، فمن خلال تلك المعادلة الصبورة، تستحق ام احمد او بالاصح الدكتورة جهاد صلاح، كل 

الاحترام والتقدير على هذا الانموذج الرائع، والذي يمثل عنواناً اصيلاً كتب بجودة فلسطينية وبصبر نبينا ايوب . 

فجهاد صلاح التي عقدت العزيمة، وفق بوصلة لا تشير الا الى معنى الاخلاص والوفاء، ونحن نتذكر حينما قال لها زوجها من وراء القضبان لحظة اصدار الحكم عليه بالمؤبد مدى الحياة : "اخيرك ولا اريد ان اظلمك معي، فحكمي طويل، والله اعلم ان كنا سنلتقي مرة اخرى في بيت واحد"، ولكن تلك الزوجة الصبورة، المتمسكة بزوجها، كان ردها مزلزلاً في قاعة المحكمة وهي 

شامخة الرأس والجبين : "انت حكمت بالمؤبد وانا محكوم معك اذهب ولا تندم فان لم نلتق في الدنيا سنلتقي في الاخرة" . 

سؤال : ماذا عن امك، الحضن الحنون الدافئ، حدثينا عنها، فنحن نعرف انها ذاقت لوعة الحزن وطول المسافات حسرة بفراق رزق ؟ 

آمنة صلاح : امي تلك المرأة الحنونة، فقد كانت لا تعرف طعم النوم، حينما يقترب موعد زيارتها لابنها، وكأنها تريد ان تسابق الريح لتكحل ناظريها برؤيته " اطمئناناً وحنيناً"، وحين كانت تعود من الزيارة تبكي هي ومن حولها الماً وحسرة، فرزق كان يخصها بالرسائل المعطرة بعبق الحنين ومسافات الطريق المروسة باشعار درويش " احن الى خبز امي وقهوة امي ولمسة امي 

وتكبر في الطفولة يوماً على صدر امي واعشق عمري لاني اذا مت اخجل من دمع امي"، لكن المرض كان اسرع من مسافات الطريق وتغلب على جسدها النحيل ولم تستطع زيارة قرة عينها الا على كرسي متحرك، فكان المشهد ثقيلاً ومؤلماً على رزق، الذي اعتاد رؤية والدته بقوامها وجسدها النحيل، وللوهلة احتضنته بقوة ولهفة وكأنه اللقاء الاخير ما بين لهفة الشوق وحرمان السنين، 

وبعدها باشهر قليلة توفيت وهي تردد " بدي اشوف رزق وبعدها اموت مش مهم" . 

ولكن السؤال الذي يقف امامنا اليوم، وهو موجه من امنة صلاح، هل اصبح اسيرنا رزق "ابو احمد" بطل في زمن النسيان ؟، ام ان عراب الذاكرة الخجولة خجول ولا يقوى على قول الحقيقة الا من خلال تعمد النسيان !! ….. السؤال مفتوح للجميع

بواسطة
مأمون شحادة
المصدر
زهرة سورية /حلب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى