سياسية

الاقتصاد في لبنان للسعوديين والأمن للسوريين

يكاد الخاسر في الانتخابات اللبنانية، أن يكون أكثر ابتهاجاً من الفائز. على الأقل هذا ما تلهج به ألسنة قيادات في المعارضة اللبنانية وكأن عبئاً قد انزاح عن ظهرها، بعد انعقاد الأكثرية لأربع سنوات لفريق الرابع عشر من آذار.
محلياً، يمكن وضع ذلك في خانة «الطريقة اللبنانية» في التعامل مع الأشياء. إنه التفسير السهل والمريح. لكن، المسألة ليست هنا. لنراقب تعامل «الدول» مع الانتخابات النيابية في لبنان. هنا يحتاج الأمر إلى قياس بغير «الطريقة اللبنانية» من أجل محاولة تلمس خيوط خارطة طريق ما بعد الثامن من حزيران لبنانياً، ولكن في سياق عربي ودولي بدأت تظهر ملامحه تدريجياً.

وصل السفيران السعودي والسوري إلى بيروت قبل السابع من حزيران. زار السفير السعودي الجديد قيادة «حزب الله» وترك انطباعات ايجابية جداً. وضعت الزيارة في خانة الجولة البروتوكولية، لكن المفاجأة تمثلت في لقائه الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي كان متهماً بالتسبب بترحيل السفير السعودي السابق الوزير عبد العزيز خوجة، عن طريق البحر، بعد إحراق مبنى «تلفزيون المستقبل»، وهو كان فعلياً قد أُعيد إلى السفارة السعودية، قبل السابع من أيار، وأصبح جزءاً من «كيانها» في الروشة.

ارتفع مستوى الحوار السعودي السوري. تم نقله من القنوات الأمنية إلى القنوات السياسية وثمة حديث عن زيارات متبادلة ظلّت بعيدة عن الأضواء. فجأة تحرك الملف السوري المصري وعادت الحرارة إلى الخطوط بين العاصمتين بعد فترة جفاء طويلة. المعادلة السارية المفعول «تعالوا نتفق على الجزئيات (الإقليمية) وعندما ننجز التفاهمات المطلوبة نذهب إلى القمة الثلاثية (السعودية المصرية السورية)، وهناك يصار مجدداً إلى تكريس «الترويكا» العربية مجدداً».

الجزئيات تشمل لبنان وفلسطين بالدرجة الأولى، وهذا يعني أن لبنان على هذه الطاولة، وهو لم يغب عن طاولات أخرى، أبرزها طاولة البيت الأبيض، التي حفلت بالضيوف العرب، وكذلك على الطاولة الإيرانية ـ الفرنسية ومن خلالها الطاولة الغربية الإيرانية، حتى اللقاء الأخير بين الوزيرين المصري أحمد أبو الغيط والفرنسي برنار كوشنير في باريس ناقش التفاصيل والاحتمالات الانتخابية في لبنان.

ومن زار دمشق قبل أيام قليلة من موعد فتح صناديق الاقتراع في لبنان، استوقفه التعامل السوري مع الملف اللبناني ببرودة وكأن لبنان موجود على الخريطة في جنوب أميركا الجنوبية!

المسؤولون السوريون يتجاهلون التفاصيل الانتخابية، على عكس كل تعاملهم قبل شهور عندما كانوا يضعون الانتخابات في خانة «المصيرية». خطاب تراجع وحلت محله لغة هادئة، واعتبار الانتخابات مجرد حدث موسمي.

قال أحد العائدين من الرياض يوم الجمعة الماضي «لا تتفاجأوا بالمعادلة الجديدة بعد الانتخابات: الاقتصاد في لبنان للسعوديين (آل الحريري) والأمن للسوريين (المؤسسة العسكرية اللبنانية)».

رميت قنبلة «دير شبيغل» الدخانية. قال وليد جنبلاط إنها تنقلنا من مقلب إلى مقلب. أول إيحاء مباشر بالاستعداد لدفن الاتهام السياسي. ماذا بعد؟

تنتهي الانتخابات وفي اليوم التالي، لا بل في ليلة السابع ـ الثامن من حزيران، تكر سبحة الترحيب. دمشق تعتبر الانتخابات «شأناً داخلياً لبنانياً». في اليوم التالي، يتصل الرئيس السوري بشار الأسد هاتفياً بالملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز. تقول وكالة الأنباء السعودية (واس) إن الأسد وعبد الله، «استعرضا العلاقات الأخوية بين البلدين الشقيقين، بالإضافة إلى بحث تطورات الأوضاع على الساحتين العربية والدولية». لا ذكر للبنان ولكنه كان العنوان الأساس. في المعلومات الآتية من الرياض أن الزعيمين تبادلا التهاني بانجاز الانتخابات اللبنانية وشددا على وجوب أن يستكمل اللبنانيون انتخاباتهم بتكريس روح الوحدة الوطنية في عملية تأليف الوزارة الجديدة «لأن لبنان لا يحكم إلا بالتوافق بين جميع أبنائه».

الرياض تهنئ اللبنانيين ويخص الملك عبدالله سعد الحريري باتصال على مدى ربع ساعة. دمشق، تبدي ارتياحها الرسمي لسير الانتخابات اللبنانية «بشكل آمن ومستقر»، وتحيي «الروح التوافقية» للأطراف اللبنانية بعد الانتخابات، وتعرب عن الأمل في «ترجمتها إلى خطوات ملموسة خلال البرنامج الوطني للمرحلة المقبلة».

المستشارة السياسية والإعلامية في رئاسة الجمهورية بثينة شعبان أبدت «حرص سوريا الدائم على وحدة لبنان واستقراره وازدهاره، واستعدادها لمساعدته في كل المجالات لتحقيق هذه الأهداف». وتابعت إن «سوريا تشجع الروح التصالحية والتوافقية التي عبرت عنها مختلف الأطراف اللبنانية بعد الانتخابات، معربة عن الأمل في ترجمتها إلى خطوات ملموسة خلال البرنامج الوطني للمرحلة المقبلة».

تعكس مصادر وثيقة الصلة بالنائب الحريري جواً انفتاحياً مثيراً للاهتمام. الرجل يتصرّف منذ الآن كرئيس للحكومة. لا يتمنى فقط، بل يتوقع العودة إلى الصيغة التي كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري قد أرساها مع المقاومة، والتعايش بينها وبين الدولة التي تحقق الازدهار وتجلب الاستثمارات، وتصدر القوانين الضرورية لصرف أموال «باريس ـ 3».

لا ينتظر اتصالاً من قيادة «حزب الله» لتهنئته. يتصل برئيس كتلة نواب الحزب محمد رعد معاتباً. «يراسل» الحاج حسين الخليل أكثر من مرة. الأجواء ودية بين الطرفين… وهذه هي «مولدات» العاملين على خط قريطم ـ الضاحية الجنوبية قد بدأت تعمل لتأمين اللقاء بين المرشح الأبرز لرئاسة الحكومة المقبلة وبين «السيد».

يقول الحريري «أنا مستعد لإعطاء المقاومة والسيد حسن كل ما يريدون من ضمانات في شأن سلاح المقاومة. ليكتبوا ما يشاؤون في البيان الوزاري، فنحن نريد استكمال مشروع بناء الدولة الذي لا يتعارض ولا يتصادم مع المقاومة، كما كان الحال أيام رفيق الحريري، الذي كان يواجه ظرفاً داخلياً وعربياً ودولياً أصعب بكثير من الظرف الحالي الذي تحقق بعد الفوز في الانتخابات وبعد التثبت من أن الدور السوري صار محدوداً، وهو ما بدا واضحاً خلال المعركة الانتخابية التي أتيح خلالها لفريق 14 آذار ان ينافس وينتصر خاصة في الشمال والبقاع، من دون عرقلة سورية، لأن دمشق معنية بإثبات حسن نواياها وحيادها اللبناني تجاه أميركا والسعودية ومصر، ولا سيما قبل أيام معدودة من وصول المبعوث الاميركي جورج ميتشل الى العاصمتين اللبنانية والسورية (الجمعة والسبت)».

يشعر الحريري بأن الفرصة لتوليه رئاسة الحكومة قد حانت. «لعل الفرصة متاحة أمامي اليوم أكثر مما كانت متاحة لوالدي، كما ان التفويض الانتخابي واضح وحاسم، وهو لا يدعو الى المواجهة مع احد، لا في الداخل ولا في الخارج، بل الى استيعاب النصر… نعم علاقتنا مع سوريا يجب ان تكون جيدة. وهذا ما نطمح اليه في الأساس».

يطرح الحريري للمرة الأولى أسئلة العلاقات اللبنانية السورية الكبرى، ذلك أنه اذا أراد أن يتولى رئاسة الوزارة، عليه أن يكون جاهزاً للحديث مع دمشق. هذا كلام قاله له ولغيره السعوديون بشكل واضح. ولعل الجواب كان إيجابياً ومعطوفاً على أسئلة حول «طريقة إدارة العلاقات اللبنانية السورية مستقبلاً»، و«كيف سنرد على الأميركيين إذا وجهوا الينا الدعوة للتفاوض مع إسرائيل»؟.

النبرة الحريرية الجديدة والهادئة إزاء سوريا غير بعيدة عن الرياض، ولكنها نبرة مختلفة إزاء طهران. هذه حال الاعلام السعودي أيضاً. «المهم أن نصراً انتخابياً قد تحقق، وحال دون سقوط لبنان تحت الهيمنة الإيرانية»، يقول مقربون من الحريري.

تضج التحليلات السعودية الفرحة بالنتائج من جهة والمهللة لـ«الهزيمة التي مُني بها الإيرانيون في لبنان» من جهة ثانية.

يتسرب بعض مضمون زيارة وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي الأخيرة إلى باريس. يقول مصدر دبلوماسي فرنسي رفيع المستوى لمراسل جريدة السفير في باريس «نحن لم نضع سيناريو واحداً يقتصر على فوز المعارضة اللبنانية، غير أن ما أسهم في تعزيز فرضية «حزب الله» المنتصر، في الـ«كي دورسيه» و«الأليزيه» هي التقديرات الإيرانية التي نقلت إلينا عشية الانتخابات، فالوزير متكي قال لنا في الأسبوع الماضي، وبثقة كبيرة «إن المعارضة في لبنان ستفوز في انتخابات السابع من حزيران، طالباً منا استباق الحدث وحث قوى الرابع عشر من آذار على المشاركة في حكومة وحدة وطنية بعد الانتخابات».

الآن المسألة مقلوبة عند الفرنسيين الذين كانوا يخشون مع غيرهم من الأوروبيين من تداعيات فوز المعارضة على حضور جنودهم الزرق جنوب نهر الليطاني. طار الهاجس. «الستاتيكو» الحالي مستمر والسؤال الأوروبي، وخاصة الفرنسي والبريطاني يتمحور حول طبيعة المرحلة المقبلة حكومياً. من يكون رئيس الحكومة؟ كيف ستكون مشاركة المعارضة؟ ما هي حصة رئيس الجمهورية وما هي حظوظ الكتلة الوسطية؟

تتحدث أوساط فرنسية عن سعد الحريري مرشحاً محتملاً لرئاسة الحكومة شرط أن لا يكون عنواناً لاشتباك إقليمي (سوري ـ سعودي). حظوظ فؤاد السنيورة تتراجع، فقد احترقت ورقته وهو أدى قسطه للعلى في مرحلة المواجهة والحوادث الأمنية التي واجهها لبنان. الآن المطلوب إما سعد الحريري وإما عنوان توافقي، على طريقة التوافق السوري السعودي في انتخابات الشمال، حيث كان معظم العابرين من سوريا باتجاه مدينة طرابلس للتصويت فيها يحملون اسم نجيب ميقاتي «على رأس الليسته».

الأوروبيون يعتبرون أن تولي نبيه بري رئاسة المجلس النيابي «تحصيل حاصل». لكنهم يخشون أن تطول عملية تأليف الحكومة الجديدة. آليات المشاركة هل تضمن الثلث المعطل، أم أن هناك صيغاً جديدة؟ يستفسرون عن إمكان كسر الاصطفاف القائم وعن موقع وليد جنبلاط وعدد من نواب الأغلبية الذين يمكن أن يشكلوا «كتلة الرئيس» (ميشال سليمان). ما هي فرص خلط الأوراق التحالفية في لبنان وأي دور لبري وجنبلاط في هذا الاتجاه؟

صحيح أن سليمان قد مُني بهزيمة على مستوى خياره الوسطي، ولكن نظرية نبيه بري هي الأثبت. النتائج تفرز هكذا كتلة وليس الترشيحات. البريطانيون مهتمون بطريقة استثنائية بما بعد الانتخابات. يسألون أكثر من مرة، عن الكتلة الوسطية وهل يمكن أن يشكل نبيه بري رافعتها ومشروعيتها الشيعية وما هو موقف دمشق والرياض منها؟ ومن يمكن أن تضمّ؟ وهل هناك أرجحية لمعادلة الثلاث عشرات في الحكومة المقبلة (صيغة بري بعد ولادة المبادرة العربية في العام 2007)؟

يقول الأوروبيون إنه إذا كان اتفاق الدوحة قد أصبح بحكم المنتهي في نظر قوى لبنانية معينة فإن البديل هو استمرار الحوار السعودي السوري الذي سيقرر من يكون رئيس الحكومة وصيغة مشاركة المعارضة حكومياً.

الأميركيون: الإجماع اللبناني وليس التوافق

وفي السياق ذاته، جاءت التهنئة الاميركية للمراجع اللبنانية، والتي انطوت على شيء من التناقض في النبرة، بدا جلياً في حدة موقف الخارجية الأميركية، والسرور الذي أبدته بفوز 14 آذار، وتفضيلها عدم تكرار تجربة الثلث المعطل في الحكومة. فيما جاء بيان البيت الأبيض اقل حدة عاكساً ترحيب الرئيس الأميركي باراك أوباما بالانتخابات السلمية، ودعوته الصريحة الى اللبنانيين «للإبقاء على قوتكم عبر الإجماع (وليس التوافق كما ترجم النص سابقاً)».

الصحافة الغربية وضعت نتائج انتخابات لبنان في خانة أول الانتصارات الخارجية للإدارة الأميركية الجديدة.

تل أبيب ترفض تسليح الجيش

في القدس المحتلة، لم تكن النظرة مفاجئة. قدم وزير التعاون الإقليمي ونائب رئيس الحكومة في الحكومة الإسرائيلية سيلفان شالوم الرؤية الرسمية الإسرائيلية لنتائج الانتخابات اللبنانية فأعلن أن «هذه النتائج بالغة الأهمية، لأنها تبقي لبنان على قيد الحياة وتمنع تعزيز قوة إيران».

يضيف الوزير الاسرائيلي إنه «إلى جانب المشروع النووي فإن لإيران أجندة واضحة، إحياء الإمبراطورية الفارسية بتواصل شيعي يشمل إيران، العراق، سوريا ولبنان. ونتائج يوم الأحد (الماضي) تعرقل هذا المخطط. والائتلاف المعتدل الذي سينشأ سيسمح للعالم العربي بمواصلة دعم لبنان». واعتبر شالوم أن هناك «خشية دائمة من تسخين الجبهة الشمالية، ولكن في ضوء الضربة التي تلقاها حزب الله العام 2006، سوف يفكر مرتين قبل أن يفعل شيئاً».

من جهته، رحب وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك «بخسارة «حزب الله» في الانتخابات»، لكنه قال «إن هذه المنظمة لا تزال قوية ونشطة كما أن الحكومة الجديدة لن تكبحها».

الا ان باراك أضاف في مؤتمر مجلس السلام والأمن في رمات غان،: «إننا لا نحب تزويد الجيش اللبناني بالسلاح الأميركي في الأشهر الأخيرة ولا الشحنات التي يخطط لتزويده لاحقاً بها. فهذا السلاح قد يقع في أيدي «حزب الله». ويجب منح الحكومة اللبنانية الجديدة فرصة، ولكن ينبغي مطالبتها بالوفاء بالاتفاقيات وفي مقدمتها القرار 1701».

وكانت إسرائيل قد وضعت يدها في «طنجرة» الانتخابات اللبنانية عبر التهديدات التي أطلقها باراك الذي قال إن يد إسرائيل ستكون على الزناد ضد لبنان في حال فاز الائتلاف الذي ضمنه «حزب الله».

وأشاعت أوساط إسرائيلية مخاوف من أن الوضع على الحدود سوف يتغير إذا فاز أنصار «حزب الله» في الانتخابات. غير أنه وبعد أن ظهرت النتائج، ورغم اعتبارها «صافرة تهدئة»، إلا أن المسؤولين الإسرائيليين ظلوا يشددون على أن الموقف سيتحدد وفق السلوك اللبناني الرسمي. وقد شدّد الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز على أن نتائج الانتخابات لم تغير الواقع اللبناني حيث إن حزب الله ظل «دولة داخل الدولة».

المصدر
جريدة السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى