مقالات وآراء

تدويرات السياسة الفلسطينية.. المركزي بدلا من الوطني

تعيش الساحة الفلسطينية جملة من التعقيدات الكبيرة التي فرضتها طبيعة التحولات التي طرأت على المنطقة وعلى الساحة الفلسطينية الداخلية، خصوصا منذ حدوث التحول الديمقراطي في الخارطة السياسية الفلسطينية في انتخابات المجلس التشريعي بداية العام 2006 والتفاعلات التي

هذه التحولات عكست نفسها على مجموع القوى الفلسطينية، التي باتت تعاني من انعكاسات التحولات الجارية عليها وعلى بناها وعلى قدرتها في اشتقاق سياسات مستقلة تأخذ بعين الاعتبار المصلحة الوطنية الفلسطينية أولا وأخيرا.

ومن نافل القول بأن التفعيلات الرئيسية للتطورات المشار إليها أصابت بشكل رئيسي قوى وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية وتحديدا حركة فتح ومعها الجبهة الشعبية وامتدادا إلى باقي القوى التي أصيبت بصدمة وهزة عنيفة جراء التحولات السياسية في ترتيب حضور وفاعلية القوى الفلسطينية.
استوجبت منها إعادة النظر ببعض المسلمات التي كانت تعتقد بصحتها، وهي المسلمات التي استندت إليها دوما باعتبارها تعطيها أولوية وارث تاريخي في تثبيت حضورها في البيت الفلسطيني، وفي تراتبية وجود القوى، وفي المحاصصة ضمن إطار منظمة التحرير ومؤسساتها القائمة بعجرها وبجرها..

كما لا تزال التطورات الأخيرة التي حصلت في دمشق بين الفصائل الفلسطينية بعد عقد المؤتمر الوطني بداية العام 2008 تتفاعل، في ظل تبلور الاتجاه الذي يدفع نحو تحدي قرارات أبو مازن في دعوته لعقد مجلس وطني أو مجلس مركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية بمن حضر يستبعد فيه كل أعضاء المنظمات الرافضة لسياسته.
ومع هذا فإن الوقائع على الأرض باتت تؤشر بوضوح إلى الصعوبات الكبيرة التي تعتري عقد دورة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني في ظل غياب التوافق الوطني الفلسطيني وسيطرة الانقسام على الساحة الفلسطينية. 
خصوصا أن اجتماعات اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني التي عقدت قبل مؤخرا في جلستين، إحداهما في عمان والثانية في رام الله -والتي شارك بها مستقلون إضافة إلى ممثلي فتح، والشعبية، ومجموعة جبهة النضال التابعة لسمير غوشة، وجناح جبهة التحرير الفلسطينية بقيادة واصل أبو يوسف، وجماعة حواتمة، والجبهة العربية بقيادة جميل شحادة، وجبهة التحرير العربية، وحزب الشعب، وحزب فدا- لم تفلح في شق طريقها بالاتفاق على دعوة المجلس الوطني للاجتماع، بسبب تحفظ الجبهة الشعبية ومطالبة باقي القوى كجبهة التحرير العربية وجبهة التحرير الفلسطينية بالتريث.
ومع انسداد الطريق أمام إمكانية التئام أعمال المجلس الوطني، فإن جهودا جديدة تبذل الآن من قبل مواقع السلطة وحركة فتح لترتيب عقد اجتماع كامل للمجلس المركزي، وهو الهيئة الوسيطة بين اللجنة التنفيذية للمنظمة والمجلس الوطني (البرلمان)، وعندما يصعب تمرير استحقاقات جديدة تحت عباءة المجلس الوطني، فالمجلس المركزي كاللجنة التنفيذية للمنظمة يتم استحضاره وقت الطلب.
وذلك لتحقيق جملة من الأغراض دفعة واحدة، منها إعطاء "كرت بلانش" وتفويض سياسي جديد لمواقع السلطة، واتخاذ قرار حلّ المجلس التشريعي المنتخب في دورته الثانية التي جرت في 25/1/2006 والدعوة لانتخابات تشريعية جديدة في الضفة الغربية والقدس والقطاع، وهي مسألة على غاية الخطورة باعتبارها خطوة تفجيرية جديدة في البيت الفلسطيني تكرس "الانقسام" التام السياسي والجغرافي.
وبالطبع فإن الخطوة المشار إليها مقبولة جدا من الناحية الإسرائيلية بل وهي مطلب أميركي صرف، فضلا عن إضافة "11 عضوا" جديدا من لون واحد بدلا من المتوفين، وانتخاب نائب من الداخل لرئيس المجلس الوطني الفلسطيني (تنص اللائحة الداخلية للمجلس على أن يكون للرئيس نائبان، توفي أحدهما وهو الأب إبراهيم عياد في الداخل وبقي واحد هو تيسير قبعة)، وأمين للسر بدلا عن محمد صبيح (عين أمينا عاما مساعدا للأمين العام للجامعة للعربية في القاهرة)، وانتخاب أربعة أعضاء جدد في اللجنة التنفيذية يحلون بدل المتوفين الأربعة وهم المرحومون ياسر عرفات، وياسر عمرو، وفيصل الحسيني، وأميل جرجوعي.
ومع هذا، ما زالت دعوة المجلس المركزي للانعقاد تصطدم بدورها بممانعة العديد من القوى والشخصيات المؤثرة بمن في ذلك رئيس المجلس الوطني سليم الزعنون (أبو الأديب) الذي رفض دعوة انعقاد المجلس المركزي، ودافع عن عدم قانونية الدعوة، وخاض معركة كلامية قاسية في الاجتماع الأخير للجنة التنفيذية للمنظمة قبل أيام خلت في رام الله، حيث غادر الاجتماع غاضبا، ليلحق به الرئيس محمود عباس -"القائد العام" لحركة "فتح"- ويسترضيه ويعيده إلى الاجتماع، فكرس الزعنون نفسه بموقفه كحارس وكحام للنظام الأساسي لعمل المنظمة ومؤسساتها.
وكرئيس للمجلس الوطني (البرلمان) يدرك سليم الزعنون تماما الهدف من دعوة المجلس المركزي للاجتماع، وما الذي يراد منه، حيث يرى في هذه الطلبات مخالفة صريحة للائحة الداخلية للمجلس الوطني، فضلا عن محاذيرها السياسية متمثلة في خشيته من أنه في حالة انتخاب نائب له من الداخل، وأمين للسر وإضافة 11 عضوا جديدا من الداخل بدلا عن المتوفين وإضافة أربعة أعضاء إلى اللجنة التنفيذية أيضا من الداخل، فإنه يصبح بالإمكان عقد المجلس المركزي في أي وقت في الداخل، بموافقته وبدونها، واتخاذ ما يشاؤه تيار التسوية من قرارات وإجراءات تنظيمية وسياسية دون حسيب أو رقيب..! 
وهنا يمكن أن نستعرض المحاور الرئيسية لمواقف القوى الرئيسية في المعادلة الفلسطينية من مواضيع اللحظة السياسية وانعقاد المجلس المركزي، بدءا من حركة فتح التي تعيش أشكالا من الضياع والاغتراب التنظيمي، والصراعات الداخلية التي تتخذ عناوين ذاتية وشخصانية بالدرجة الأولى ولا علاقة لها البتة بالعناوين الوطنية الفلسطينية.
يدخل ضمن ذلك الصراع بين أقطاب اللجنة المركزية (مثلا صراعات هاني الحسن مع المجموعة المقربة من محمود عباس، وصراعات مجموعة الدحلان مع نصر يوسف والحكم بلعاوي، وصراعات قريع المخفية مع أبو مازن وهلم جرا)، فضلا عن المسائل الداخلية المتعلقة بالجسم الفتحاوي في ظل حالة الترهل المؤسساتي، وانفلات الأوضاع وفق ما يعرف باسم " تعدد المرجعيات والمنابر" وسيطرة تيارات وأجنحة معينة على موقع القرار التنفيذي على الأرض، وفي جانبها الآخر المتعلق بالسلطة الوطنية الفلسطينية مع تعالي الأصوات الفتحاوية المنادية باستعادة موقع رئاسة الوزارة من يد سلام فياض، الذي تعتبره غالبية الكوادر الوسطى لفتح رجلا قادما من خارج عباءة الحركة أو أي من فصائلها وقواها السياسية.
وما زاد من تعقد حالة الأوضاع الفتحاوية الداخلية الصعبة توالد حالات من أشكال الاحتراب الداخلي غير المسؤول بين عدد من المفاصل القيادية التنظيمية والعسكرية والأمنية، وانقطاع اللجنة المركزية عن إتمام اجتماعات عملها النظامية بحضور النصاب الحقيقي، واقتصارها على الحضور فقط وبغياب فاق في غالبية اجتماعاتها أكثر من الثلثين.

فباتت اللجنة المركزية معطلة تماما وغائبا كبيرا عن تقرير مصير العمل والبرنامج الفتحاوي. كما ولا يخفى على أحد حالة التنافر السلبية الحادة بين الرئيس محمود عباس والسيد فاروق القدومي الذي يعتبر نفسه بمثابة آخر المرجعيات التاريخية لحركة فتح.
أما الجبهة الشعبية، فما زالت تعيش حالة تخبط بسبب وجود اتجاه متجاور مع سياسات محمود عباس داخلها يقوده عبد الرحيم ملوح وتيسير قبعة نائب رئيس المجلس الوطني، أما أحمد سعدات فهو صاحب الخط الأنقى والأصلب في الجبهة الشعبية، وخطه ينسجم مع دعوات المقاومة، لكنه في سجنه عاجز عن التأثير الكبير في مسار الجبهة الشعبية في الوقت الراهن. 
وهنا ما زالت الجبهة الشعبية مترددة، حيث "قلبها" على عضويتها في المنظمة وخشيتها من مكاسرة أبو مازن في سياساته خصوصا مع مشاكلها المالية، وفقدانها لعمادين من أعمدتها التاريخية (جورج حبش وأبو علي مصطفى).
أما على صعيد الجبهة الديمقراطية، التي تعاني بدورها من وجود كتلتين متصارعتين لأسباب لا علاقة للسياسة أو اشتقاقاتها بها في صراعات على المستوى الشخصي التنظيمي الداخلي قبل الوطني، فإنها تجرجر نفسها منذ مدة طويلة داخل الجبهة بعد تداعيات الدمار الذي حل فيها منذ انقسامها العمودي والأفقي عام 1990 بقيادة ياسر عبد ربه الأمين العام المساعد السابق لحواتمة، حيث يقف حواتمة بينهما ويحاول صياغة سياسة تضبط سلوك كل منهما وفق طريقته المعروفة داخل الجبهة، ولكن الاتجاه السياسي العام للجبهة يسير على خط التوافق مع سياسة السلطة والتسوية، وعلى قاعدة التماثل مع أبو مازن. 
ومن جهتها فإن حركة فتح الانتفاضة ما زالت تعاني تبعات أزمة ما عرف بتنظيم "فتح الإسلام" وتورط أمينها العام المساعد السابق العقيد موسى العملة في ملف فتح الإسلام، حيث تم دفع العقيد زياد الصغيّر (أبو حازم) للموقع الثاني وأعيد الاعتبار له، كما لا تزال الأزمة التنظيمية تتخذ عناوينها المالية والسياسية، وهناك اتصالات يحاول البعض إجراءها مع "فتح الأم" للعودة إلى التنظيم كملجأ من الأزمات الموجودة.

أما جبهة التحرير الفلسطينية فما زالت تعاني المأساة نفسها، حيث تتردد في مواقفها بفعل رسائل أبو مازن لجناحها بدمشق، حيث يشترط أبو نضال وعلي عزيز حل قضايا الجبهة المعلقة (المالية والتنظيمية والوحدة الداخلية) قبل أي خطوة تجاه السلطة، بينما تمارس باقي القوى الاندماج العملي مع سياسة أبو مازن بالرغم من التصريحات الانتقادية هنا وهناك، والقوى هي حزب فدا، والجبهة العربية، وجبهة النضال الشعبي جناح الدكتور سمير غوشة، وجبهة التحرير جناح واصل أبو يوسف، وحزب الشعب الفلسطيني، وجبهة التحرير العربية..

استخلاصات: وفي هذا السياق، فإن حركة حماس تجد نفسها الآن، وبالأحرى منذ مدة ليست بالقصيرة، أمام مواجهة عدة استحقاقات في آن واحد.

وأهم هذه الاستحقاقات ما له علاقة بضرورة تطوير ببرنامجها المقدم عربيا ودوليا في سياق تقديم نفسها كطليعة نضالية في المقاومة المشروعة للشعب الفلسطيني وكفاحه العادل. والمهمة المشار إليها على غاية من الدقة والحساسية في ظل وجود البرنامج الآخر في الساحة الفلسطينية، وهو برنامج (إطار ضيق) في القيادة الفلسطينية القابضة على سلطة القرار ومعها مجموع الإطار الضيق الذي بات منذ زمن طويل يرى مصالح تتوافق مع برنامج التسوية بخطوطه المعروفة.وغالبية الإطار الضيق المشار إليه لا ينتمي بالضرورة لحركة فتح بل يضم قوسا من مجاميع الحالات المعروفة، فمنها من هو فتحاوي المنشأ، ومنها من التحق متأخرا بفتح، ومنها من نشأ في ظل عملية التسوية ومسارها المعقد منذ العام 1990 (مجموعات في الضفة والقطاع)، ومنها من هو يساري المنشأ (صائب عريقات، وأديب عبد ربه، وبسام أبو شريف، ورياض المالكي، وأفراد من حزب فدا والجبهة الشعبية وجماعة حواتمة وجبهة النضال الشعبي وجبهة التحرير الفلسطينية).

بواسطة
سي _السيد
المصدر
الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى