مقالات وآراء

مشاعرنا.. بين الحب وغريزة التملك بقلم عمار حجار

منذ الأزل، وكلمة (الحب) بتفسيراتها ومعانيها احتلت مكانة مرموقة بين الأدباء والشعراء، حتى الفلاسفة وعلماء النفس لم يألوا جهداً في تعريف الحب ودراسته على مر الأزمان، تختلف
 المصطلحات والتسميات لكن المعنى واحد..

فاللغويون عرفوا الحب بأنه كلمة من حرفين، (الحاء) حرف يخرج من الحلق وهي نهاية مخارج الحروف و(الباء) وهو يخرج من الشفاه وهي بداية مخارج الحروف، وكأن الحب هو نهاية كل الأشياء الذميمة (الكذب، الخداع، الغش، التملك، الكره، الأنانية، الظلم، الحقد والحسد) وبداية تبلور الخصال الحميدة (الصدق، التضحية، التواضع، الرضا، القناعة، العدل وطلب الحلال). أما علمياً فقد عُرّف الحب بأنه عبارة عن ظاهرة كيميائية تنشأ داخلنا، فنحن نحب لأن أجسامنا تفرز مواداً كيميائية تدفعنا تجاه شخص معين دون سواه. وهكذا فإن الحب هو غريزة أساسية هامة لدينا، وحقيقة بيولوجية يمكن دراستها بصورة علمية. والفلاسفة عرفوا الحب بأنه مفهوم تجريدي يُفهم معناه من خلال التجربة وليس من التفسير الشفهي، أما علماء النفس فقالوا أن الحب الحقيقي هو الذي يجمع بين الألفة والعاطفة والرغبة والالتزام والثقة والصدق و هو اقتناع واحتواء وامتلاك وحيوية و رضا وتفاهم وإخلاص.. وبالتالي سعادة يظللها إحساس بالأمان، والحب كلمة رقيقة تصف المشاعر الكامنة للكائنات، وتعبّر عن ميل تجاه شخص (أو شيء)، وهذا الميل يكون مرتبطاً برغبة الاقتراب منه، وأحياناً محاولة تملكه والاستحواذ عليه. ويوصف الحب أحياناً بأنه سر غامض، في محاولة لإضفاء صفة القدسية عليه، لعدم كشف ما يكمن خلف الحب من رغبات، لأن ذلك يجرد الحب من الهالة التي نسجت حوله على مر القرون.

وتؤكد العالمة الأمريكية "هيلين فيشر" في كتابها (تشريح الحب) بأنها كانت دائماً تؤمن بأن الحب هو عاطفة أساسية وغريزة أولية لدينا ، مثلها مثل غريزة الخوف والغضب والفرح . ولا تدري لماذا كانت هذه الحقيقة غائبة عن علماء الأجناس، ربما كانوا مشغولين بأشياء أخرى. ومن بين هذه الأشياء أنهم كانوا يربطون بين الحب والزواج، علما أن هناك حضارات كثيرة قد فصلت بينهما، معتبرين أن الزواج عبارة عن مصالح متبادلة بين الأفراد، أما الحب فهو شعور من الصعب فهمه أو تحديده بسهولة.

أما النظرية اليونانية التي يتحدث من خلالها الفيلسوفان "ديموقراط" و "إيبيكور" عن أن هناك ذرّات متناثرة ومنتشرة في الكون، تفتش عن بعضها البعض، حتى تلتقي وتتكامل ويحصل عندها ما يسمى بالتوازن الكوني. وأما على صعيد الأشخاص فيحصل ما يسمى بالانسجام العاطفي، بمعنى آخر: إن تكامل الأشخاص مع بعضهم البعض يعني تكامل ذراتهم وهذه الذرات عبارة عن هالة غير مرئية تحيط بهم وهي في رحلة بحث دائمة عن مثيلاتها لتحقق الاستقرار والتكامل وهي منقسمة إلى قسمين (ذكر وأنثى) أو (سالب وموجب). وعند تطور الانسجام العاطفي بسبب التوافق بين الذرات يتحول إلى حب، وقد يستمر إلى الأبد عندما تتكامل الروح مع الجسد. أما عند زيادة هذا التجاذب والانسجام عن الحد المألوف يصبح تملكاً، ومن هنا تبدو التربية في الحب أساسية وضرورية، فالحب ليس مجرد مسألة سطحية أو هامشية بل هو مسألة أخلاقية تتجاوز المظاهر لتصل حد الشعور بالمسؤولية والتضحية والإخلاص.

إن هذا الانسجام أو كما يسمى بتكامل الذرات يمكن أن يحدث للشخص مرات عديدة في حياته وهذا يعود إلى طبيعة كل شخص ومدى تأثره بالعوامل الخارجية والنفسية والاجتماعية. وفي هذا السياق يقول عالم النفس الأمريكي" جيروم كاجان"، الأستاذ في جامعة هارفارد في كتاب له بعنوان (الإنسان والطبيعة): بأن للإنسان دوراً كبيراً في تحديد تصرفاته وترويض غرائزه، فليس كل ما يصدر عن الكائن البشري هو من فعل جيناته وإنما تلعب قوة الإرادة لديه دوراً كبيراً في توجيه سلوكه والسيطرة على نزواته ودفعها نحو السمو. وهكذا وبما أن الإنسان هو مادة وروح في آن واحد، فلا يمكننا دراسته دراسة علمية بحتة، نظراً لما يتسم به من خصوصية وشفافية وعواطف مركبة .

أما التملك.. يعني حب حيازة الشيء (أو الشخص) وجعله في تصرفه وسيطرته باستقلال تام وعدم مشاركة غيره فيه، وأن يكون خاصاً خصوصية كاملة، فلا يعتمد على الحب العاطفي بل على حب امتلاكه وعدم القبول بأنه يمكن أن يكون للغير. حب التملك غريزة بشرية أيضاً، تنشأ عند ازدياد الانسجام العاطفي بين الأشخاص عن الحد المألوف ليتحول الإنسان على مسخ بشري مريض همّه إشباع غرائزه على حساب الآخرين دون أدنى مراعاة لمشاعرهم وعواطفهم. فهذا المسخ البشري الذي تحكمت فيه غرائزه لايرى إلا نفسه ومصلحته وسعادته رغم أنه لن يعرف السعادة الحقيقية أبداً فحتى لو حصل على ما يريد سيعيش في رعب دائم من فقدانه، وإذا لم يحصل عليه يقضي حياته محاولاً اكتسابه أو تحطيمه.

حب التملك مرتبط دائماً بالأنانية، يعني أن الإنسان المتملك لديه "نرجسية أولية" عالية منذ الطفولة لم تُهذّب، أو أنها هُذّبت تحت ضغط الواقع لتتحول إلى حب سيطرة وامتلاك. لذلك فإننا نرى بعض الأزواج والزوجات يرتبطون بالآخر بشكل مرضي، وليس حبّاً للطرف الآخر، فحب الآخر يعني منطقياً، حب رفاهيته وسعادته، ولكن حسب أعراف الأنانيّين، يعني تملكه من دون الآخرين، ولذا فإن هذا الانسجام ليس حبّاً بقدر ما هو أنانية تنطوي على عدوان. وهناك بعض الحالات المرضية فعلاً، والتي من خلال مرضها يظهر عَرَض حب التملك والاستحواذ وعدم القدرة على الانفصال ومنها مرض قلق الانفصال إذ لا يستطيع المريض الانفصال عن الشخص المرتبط به وذلك لتعرضه لصدمات انفصال تمت في طفولته لموت أو سفر، وعلاج ذلك يكمن في تنمية نضج المريض، واعتماده على ذاته، وتقليل نكوصه، ومساعدة عقله في السيطرة على مشاعره الطفولية التي قد تدمر حياته.

من أجمل ما قال الأديب المصري إحسان عبدالقدوس في نهاية قصة "الخيط الرفيع" عن الحب والتملك: [عاطفة الحب التي تسمو بك مرتبة الملائكة، وغريزة التملك التي تنحط بك إلى مرتبة الحيوان.. الحب الذي يدفعك إلى أن تضحي بنفسك في سبيل من تحب، وغريزة التملك التي تدفعك إلى أن تضحي بمن تحب في سبيل نفسك.. الحب الذي يدفعك لأن تغار على من تحب.. على سعادته وراحته وسلامته، والتملك الذي يدفعك لأن تغار لنفسك.. لسعادتك وراحتك وسلامتك.. الحب.. العطاء، السخاء.. والتملك.. الأخذ، الأنانية.. والناس كلهم لايرون هذا الخيط الرفيع.. وإلا لعرفوا لماذا تخون هذه الزوجة التي تبدو سعيدة بزوجها وبيتها وأولادها.. لماذا تخون زوجها وقد وفر لها الشباب والمركز الاجتماعي وضمن لها المستقبل؟!.. ولماذا يخون هذا الزوج زوجته.. وقد وفرت له الشباب والجمال والبيت السعيد وحسده عليها الجميع؟!.. انها غريزة التملك.. الغريزة البشعة التي يفصل بينها وبين عاطفة الحب السامية، خيط رفيع.. رفيع جداً!!!..].

وبعد، فإن الصراحة والموضوعية المنطقية والتحليلية، عند البحث في الحديث عن الحب، والبُعد عن الخيال الأسطوري للحب، قد يجرد الحب من قدسيته، ويهوي به إلى أرض الواقع. هذه القدسية، التي اعتدناها من الشعراء والأدباء الذين جعلوا الحب صنماً ضخّموا في قدسيته، ولكنه شكل آخر من أشكال الأنانية وحب الذات، شكل يساعدنا على التكيف والاستمرار في هذه الحياة، وهو ضروري ليجعلنا نتحمل إحباطات الحياة، ونستطيع العيش فيها، ولكن إن أصبح الحب نفسه هو المحبط، فتوضيح حقيقته على هذه الصورة، قد يكون معيناً على مواجهة ذلك الإحباط. تلك هي حقيقة الحب، التي ستكون لأناس بلسماً وشفاء، ولآخرين مرارة وعذاب.

المصدر
زهرة سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى