اقتصاديات

قانون الاتصالات الجديد .. خدمات أفضل وأسعار أرخص

هل سيتمكن قانون الاتصالات الجديد من إعادة التوازن إلى قطاع الاتصالات؟ وهل سيؤدي التغيير المقترح لوجود صوت للمواطن في غرف اتخاذ القرار؟ وما هي فرص نجاح محاولة تطوير قطاع الاتصالات كما يطرحها القانون الجديد؟
خمسة وسبعون مليار ليرة
سنوياً على الطاولة:
أعتقد أن الأشهر القادمة ستشهد واحدة من المواجهات الطاحنة في مجال الاتصالات، فالمؤسسة العامة للاتصالات قد حققت في العام الماضي إيرادات تجاوزت الخمسين مليار ليرة سورية، وقد تم تفصيلها في إحدى النشرات الصادرة عن المؤسسة كما يلي: وصلت الإيرادات التقديرية المحققة للمؤسسة العامة للاتصالات للعام الماضي لغاية الشهر الحادي عشر من العام نفسه إلى (50.1) مليار ل.س، علماً بأن الإيرادات المقدرة لدى المؤسسة لذات العام تصل إلى (54.5) مليار ل.س.
وتوزع الإيرادات التقديرية على الشكل التالي:
– من الهاتف الثابت (23.2) مليار ل.س.
– من الهاتف المحمول (24.4) مليار ل.س.
– من الإنترنت (1.6) مليار.
– من مصادر أخرى (0.9).
يتبين من الأرقام السابقة أن قطاع الاتصالات هو أحد أكثر القطاعات ريعية، بحجم سوق يصل إلى خمسة وسبعين مليار ليرة سورية إيرادات شركتي الخلوي يقارب (50) مليار ليرة سنوياً تحصل المؤسسة على نصفها، ومن المتوقع أن تصل إيرادات المؤسسة العامة للاتصالات إلى (62) مليار ليرة في العام (2008) بزيادة قدرها (12 %) عن عام (2007) والتي ستنجم معظمها من رفع حصة المؤسسة إلى (50 %) من مجمل مبيعات الهاتف الخلوي، ويعتبر قطاع الاتصالات مصدر الدخل الثاني للخزينة بعد النفط، وبينما يعتبر التبغ المصدر الثالث لتمويل الخزينة، إيرادات التبغ بلغت (26) مليار ليرة في عام (2007) تم توريد (15) ملياراً منها للخزينة، إلا أن التبغ ذو أثر سلبي على مستهلكيه من جهة، ويستجر إنفاقاً حكومياً ضخماً في القطاع الصحي، كلفة السوق، بينما الاتصالات تعتبر مصدر دخل نظيف، ولها كلفة سوق إيجابية، أي أن ازدياد الإنفاق في قطاع الاتصالات يترافق عالمياً مع ازدياد معدلات النمو، وبشكل أدق مع حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ورغم أن هذه المعادلة غير دقيقة محلياً، فهذا الأمر ناجم عن خلل في تنظيم قطاع الاتصالات محلياً، وهذا بالضبط ما يحاول القانون الجديد أن يعالجه.

ما هي أوجه الخلل في قطاع الاتصالات؟
سنبدأ بمناقشة أوجه الخلل في الخدمات المختلفة للاتصالات، ومن ثم سنبين الآثار التنموية الناجمة عن الخلل المذكور.

خدمة الخلوي:
وفقاً لخطط المؤسسة العامة للاتصالات، فدخلها من الهاتف الخلوي سيصل خلال العام (2008) إلى ما يقارب الـ (28) مليار ليرة سورية، وهذا يعني أن المواطن سيدفع سنوياً حوالي خمسة وخمسين مليار ليرة سورية ثمن مكالماته عبر الهاتف الخلوي، إلا أن جودة الخدمة التي سيحصل عليها لن تتجاوز في أحسن الأحوال الـ (28) مليار ليرة سورية، وذلك كون الحكومة، بشكل أدق المؤسسة العامة للاتصالات، تقتطع الآن (50 %) من مجمل الدخل في ظاهرة غير موجودة في أي بلد آخر في العالم النسب العالمية تتراوح مابين (5 %) و(20 %) ورغم شكاوى الشركتين من أن هذه المبالغ تقتطع منهما، إلا أن الحقيقة أن هذه المبالغ تقتطع من المواطنين، لينفق بعضها في المؤسسة، تنفق المؤسسة سنوياً على مشاريعها من (5) إلى (8) مليارات ليرة سورية، ويذهب الجزء المتبقي إلى الخزينة.
طبعاً الوضع الحالي مرض لكل من الشركتين، وذلك كون كل منهما تحصل على أرباح جيدة نسبياً، وللمؤسسة كونها قد أصبح لديها مصدر دخل دون بذل أي مجهود وللخزينة كون ما يصل من الخزينة هو مبلغ جيد نسبياً، ومرشح للازدياد مع نمو حجم الاستهلاك الذي لابد منه، وبالتالي فالخاسر الوحيد في هذه التركيبة هو المواطن الذي يدفع ثمناً للخدمة لا يتناسب مع متوسط دخله من جهة، أو مع المعدلات العالمية أو الإقليمية لهذه الخدمة، أو مع مستوى وجودة الخدمة المقدمة، وأحسب أن هذه السياسة قد وصلت إلى الحائط المسدود، وذلك بسبب عدم نضج عقود إلبي أو تي الموقعة مع الشركتين، والتي لم تلزمهما بمستوى خدمة، أو بأسس تسعير محددة، وبالتالي بقيت التسعيرة عند وجود (7) ملايين مشترك مماثلة لما كان عليه الحال عند وجود (مليوني) مشترك، وأعتقد أن رفع نسبة المؤسسة إلى (50 %) مؤخراً سيدفع كلتا الشركتين أوتوماتيكياً لتقليص استثماراتهما، مما سينعكس سلباً على مستوى ونوعية الخدمة.

الهاتف الثابت:
رغم أن الهاتف الثابت يعتبر بوضع أفضل نسبياً من الهاتف المحمول، من حيث الأسعار، إلا أنه مازال يعاني من سوء إدارة بنيته التحتية، وسوء الخدمات المقدمة للمواطنين، وهذا الأمر منطقي كون المؤسسة لم تبنَ بطريقة تسمح لها بتقديم خدمات للمواطنين، شأنها شأن كافة جهات القطاع العام الأخرى، حيث يمكن أن يعتبر شعار المؤسسة، لسنا الأفضل ولكننا الوحيدون، وبالتالي يعتبر مستوى تقديم الخدمة وطبيعة العلاقة مع الزبائن نقاط ضعف جدية في الأداء الحالي للمؤسسة العامة للاتصالات، ولم تؤد عملية رفع أجور الاتصالات المحلية لأي تحسن يذكر في مستوى الخدمة، هذا إن لم نشر إلى الأداء المالي لهذا القطاع والذي يعتبر خاسراً بامتياز، ورغم أن البعض يعتقد أن السبب هو الأبعاد الاجتماعية لتقديم الخدمة، ما يدعى بالخدمة الشاملة، إلا أنني أعتقد أن القضية ترتبط أيضاً بانخفاض في الكفــاءة التشــغيلية وبضعـــف في الخطــط الاستثمارية، وهذا ناجم عن ترهل المؤسسة وازدياد عدد كوادرها ونقص في الكوادر المؤهلة القادرة على التعامل مع التعقيدات والتحديات التي تفرضها التقانات الحديثة، وبالتالي فأداء هذا القطاع يذكرنا بأداء القطاع الصناعي قبل بضع سنوات عندما كان قابلاً للإصلاح ولم نفعل.

خدمة الإنترنت:
رغم أن خدمة الإنترنت تعتبر الأقل دخلاً بين الخدمات السابقة حوالي (1.5) مليار ليرة، إلا أنها الأكثر تأثيراً على الأبعاد التنموية، وللأسف فقد بقي انخفاض الأرباح المتوقعة في مجال الإنترنت سبباً في إهمالها لسنوات متعاقبة، وذلك رغم أهميتها الحيوية، وهنا ربما يكون السبب مزيجاً من تضارب الأولويات والمصالح وضعف في الخبرات وعدم رغبة في الاستثمار، وعدم القدرة على الإدارة وكل هذه النقاط أدت لوصول الإنترنت في سوريا إلى الوضع الكارثي الذي هي عليه حالياً، والذي وإن كانت المؤسسة تتحدث عن خطوات إسعافية لمعالجته تركيب (33) ألف بوابة بالحزمة العريضة، إلا أنني أعتقد أن القضية أعمق من ذلك، وترتبط بشكل رئيس بعدم قدرة المؤسسة على إدارة هذا القطاع، والدليل أن عدد مشتركي الإنترنت مازال منخفضاً جداً، وان مستوى الخدمة مازال شديد التردي، وفي هذا السياق ربما يجب أن نشير إلى العشوائية التي تدار بها شبكة الإنترنت في سوريا، والتي تجعل من أي موظف قادر أن يفعل ما يريد، من إغلاق وفتح للبوابات والخدمات إلى تخصيص وعدم تخصيص للدارات وغير ذلك من النقاط التي أدت لوضع مستوى الخدمة في مهب الريح، وخاصة بالنسبة لقطاع الأعمال الذي يخسر مبالغ طائلة شهرياً بسبب تردي مستوى الخدمات الرقمية في سوريا.

الأثمان التنموية لتردي قطاع الاتصالات:
لم يكن الهدف من النقاط السابقة هو انتقاد وضع قطاع الاتصالات، فكلنا يعلم ويعاني من مستوى خدمات الاتصالات في سوريا، ولكن ما يهمنا هو أن كل ما سبق يجب أن يوضح لنا أن الاتصالات لم تعد قطاعاً خدمياً تنفق عليه الدولة، بل قطاع اقتصادي يدعم الخزينة بشكل مباشر، ويدعم الاقتصاد الوطني بشكل غير مباشر، وبالتالي لابد من إعادة النظر جذرياً بكافة النقاط التي اعتدنا عليها منذ مطلع القرن المنصرم، والتي بنيت على اعتبار الاتصالات قطاع خدمي بحت، ويقتصر على تمديد مجموعة من الكابلات في الطرقات بعد حفر الطريق وتزفيته هذه المهام التي قامت بها وزارة النافعة عام (1920) ونمت مع نمو الوزارة وتغير اسمها تاريخياً، ولكن الآن أضحى قطاع الاتصالات محركاً رئيساً للتنمية في معظم أقطار العالم، وبالتالي لم يعد من الممكن استمرار ثقافة (ورشة النافعة) في إدارة هذا القطاع الاستراتيجي.

ما هو التغيير المقترح
في قانون الاتصالات الجديد؟
بعيداً عن التفاصيل التقنية الواسعة التي تم طرحها في قانون الاتصالات، فربما كان قانون الاتصالات الجديد هو أول قانون يطرح تغييراً جذرياً في تركيبة قطاع ما، فقد اعتدنا على مجموعة قوانين تصدر لإدارة الأزمة، ولكنها لا تحدث تغييراً في تركيبة القطاع المعني، وبالتالي فقانون الاتصالات الجديد هو أول قانون على ما أعتقد يطرح تغييراً باتجاه إعادة المواطن وأولوياته إلى مركز القرار، وذلك عبر فصل الدور السيادي للحكومة عن الدور الناظم الإشراف التقني، للهيئة عن الدور التنفيذي للمؤسسة، الشركة مستقبلاً، ورغم أن القانون المقترح قد أعطى ضمانات كاملة للعاملين في قطاع الاتصالات بالاستمرار في عملهم بشكل مضمون، مع منحهم فرصاً لزيادة دخلهم بشكل يتناسب مع أدائهم دون سقوف، ورغم أن القانون يعمل على حماية استثمارات المؤسسة الحالية، فإننا نعتقد أن القانون المقترح سيتعرض لحملة شديدة من معظم قوى السوق كونه سيسحب بعضاً من صلاحياتها ونفوذها ويوجهها في اتجاه خدمة المواطن وتقديم خدمات أفضل وارخص له، هذا الدور الذي يفترض أن تلعبه الهيئة الناظمة المستقلة التي يقترح القانون إحداثها والتي يتلخص دورها في ضمان التزام كافة الأطراف بمستوى خدمة وأسس تسعير وعدم الاحتكار. ورغم بساطة هذه الأفكار وأهميتها لإعادة تصويب عجلة قطاع الاتصالات، إلا أن تنفيذها يتطلب أن تمتلك الهيئة المقترحة الاستقلالية الكاملة عن اللاعبين المختلفين، وبالتالي تنحصر تبعيتها في الدولة وتستمد شرعيتها من مرسوم إحداثها واستقلاليتها من التفويض الذي يمنح لأعضائها بمرسوم تعيينهم، ولا يسحب إلا بمرسوم أيضاً، وبالتالي فهيئة المفوضين هي جهة تتضمن أفراداً خبراء في مجال الاتصالات تم تفويضهم من قبل أعلى سلطة في الدولة للقيام بدور محدد، وهو ضمان حقوق المواطن في الحفاظ على خدمة جيدة بأسعار مناسبة، ومنع أي جهة من احتكار السوق، وبالتالي فإن نجاح أو عدم نجاح التطوير المقترح لقطاع الاتصالات يرتبط بمدى حفاظ الهيئة على استقلاليتها، وهنا نعتقد أن ساحة المواجهة ستكون عند طرح النص القانوني للمداولة في مجلس الشعب، فهل سينحاز الشعب لممثليه ويؤكد على استقلال هيئة المفوضين المقترحة أم يعتبرها هيئة موظفين، كما هو الواقع الحالي في المؤسسة الآن، وبالتالي يستمر قطاع الاتصالات في وضعه الحالي الذي بيناه سابقاً، والذي لن يستمر لأكثر من بضعة سنوات قبل انهياره مع تحرير الخدمات.
في جميع الحالات، نعتقد أن هذه المواجهة تستحق أن تخاض، ففي حال النجاح سيكون لدى سوريا قطاع اتصالات قابل للازدهار، وسيدفع معه قطاع تقانات المعلومات الذي عانى كثيراً من الخلل في قطاع الاتصالات، وفي حال الفشل، فسينضم قطاع الاتصالات تدريجياً إلى القطاع الصناعي العام، فتحرير الخدمات لم يعد بعيداً، وعندها سيتم إضافة قطاع الاتصالات كعبء على الخزينة بدلاً من أن يكون مصدراً رئيسياً لمواردها، وهنا ربما يجب أن نكون متأكدين من أن رؤيتنا لقطاع الاتصالات يجب أن تجعله رافداً للخزينة ومحركاً للتنمية، الآن وفي المستقبل، فأي قطاع اتصالات نريد؟.

بواسطة
م. محمود عنبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى