مقالات وآراء

هل تعتبرين يا وزارة الإعلام من أبي هشام ؟ .. بقلم حسان محمد محمود

بوصفها كائناً اعتباريّاً ممسكاً زمام الإعلام الرسميّ إداريّاً وماليّاً ، يفرض علينا عمل وزارة الإعلام بصيغته الحاليّة واجب حثّها على تطويره ، وسوف أتناول هنا قضيّةً واحدةً محدّدةً ، هي إلغاء المحطّتين التلفازيّتين الأرضيّتين الأولى و الثانية ..
 

وتحويل مواردهما الماليّة و التقنيّة و البشريّة لمجالاتٍ أكثر إثماراً ، اقتصاديّاً و إعلاميّاً و ثقافيّاً ..

هاتان المحطّتان لا تتابعان ، فكما تعلمون ؛ أصبح ( الدش ) مع مستلزماته لا يكلّف أكثر مما يكلّف برميل مازوتٍ، فمن سيتابع أرضيتـ (نا) بعد أن وصل الناس إلى فضائـ (هم) بالديجيتال أبو 1000 ليرة ؟ (1000 ليرة = 50 لتر مازوت = 1.8 كغ لحمة = فاتورة هاتفٍ محمول) ..

إزاء هذا ، يغدو منطقيّاً الاستنتاج بأنّ صرف المبالغ المخصّصة لهاتين المحطّتين في سبيلٍ إعلاميٍّ آخر ؛ أجدى من بعثرتها في عملٍ ( إعلاميٍّ ) لا يتابعه أحدٌ، فمن باب العبث إطلاق صرخةٍ في الصحراء ، و أحد ضروب الهدر التي لا يرتكبها ذو بصيرةٍ؛ إنتاج ما لا يستهلك ..

أنا مثلاً ـ وأحسب أنّ هذا حال الكثيرين ـ تعطّل عندي هوائيّ الاستقبال الأرضيّ منذ سنين، ولم أقدم على إصلاحه، حتى أنّ جارنا ( أبو هشام ) عندما صبّ سطح منزله ، قال له ( الباطنجي ) : " ما رأيك أن نغرس في الباطون بعض قضبان الحديد من أجل استخدامها لإنشاء حبالٍ لنشر الغسيل ؟" وحين وافق ، أقدم على قصّ "البوري" الطويل الذي كان يحمل شبكة استقبال البثّ الأرضيّ ، دون أن يستشيرني ، أو يستأذن مني ، لأنه كان يعرف تبرّمي وسعيي للخلاص منه، وعندما أخبرني بما فعل معتذراً لأنه أقدم على ذلك في غيابي ، شكرته ، و رفضت ما عرضه عليّ من نقودٍ ثمناً "للبوري" ، وقلت له : " يا رجل مو بيناتنا، و لو!! يا أبو هشام ، أنا لازم أعطيك مصاري لأنك ريحتني منه" ..

وكما فعل ( أبو هشام ) باستثمار معدّات استقبال البثّ الأرضيّ ، يمكننا أن نفعل باستخدام خبرات و أموال وتجهيزات المحطّتين في بثٍّ نافعٍ , أصبح ملحّاً وضروريّاً ، فنحدث محطّةً فضائيّةً ثقافيّةً ، تسمح لكاتبٍ مغمورٍ ـ إعلاميّاً ـ مثل زكريا تامر أن يسمع الناس به قاصّاً أو محاوراً أو محاضراً مثلما يسمعون بسواه ..

اقتراحٌ ، إن تجسّد ، أسهم في معالجة اختلال توازن توزيع مساحة البثّ الإعلاميّ لصالح الدراما ، وتلافي بعض آثاره، التي لعلّ أبرزها و أخطرها ؛ أن شرائح واسعةً من الناس أمست تتمثّل (فلسفة) الممثّلين ، و تتبنّى وجهات نظرهم وعاداتهم ومناكفاتهم وشجاراتهم ، و حديثو التفتّح على الحياة ومعانيها ومشاكلها باتوا يقتدون (بنظرتهم) إلى الحياة ، في ظلّ غياب نافذةٍ إعلاميّةٍ تقدّم لهم نظراتٍ أخرى ، أكثر عمقاً وأصالةً وارتباطاً بجوهرهم الإنسانيّ و الوطنيّ و الاجتماعيّ ..

تسليط الأضواء على هؤلاء وحجبها عن أولئك ؛ ضخّم حجم الممثّلين وعائلاتهم ، وجعلهم يبرزون بصفتهم صانعي رأيٍ و قدواتٍ في ميادين غير ميدانهم، لأن العامّة يتابعونهم في المسلسلات، وفي برامج المنوّعات، والمقابلات، و الصحف، و المجلات، و الإذاعات، و الإعلانات، و المهرجانات، و الندوات، و التكريمات، و حتى برامج تعليم الطبخ… فيما مثقّفو هذا البلد ومفكّروه لم يخصّص لهم ما تحظى به ممثّلةٌ مبتدئةٌ من فرص الإشهار و البثّ ليس لمسلسلٍ تشارك فيه فحسب، بل لقضايا حياتها و وجهة نظرها في الموت و الحياة و الصداقة و الحبّ و السياسة و …الطبخ .

فما الذي يمنع إحداث قناةٍ فضائيّةٍ ثقافيّةٍ ؟

ها هي ذي المقوّمات البشريّة و الماديّة و التقنيّة موجودةٌ، في المحطّتين الأرضيّتين و في المراكز الإذاعيّة و التلفازيّة المنتشرة في المحافظات، و المادّة الإعلاميّة (المجانيّة) تصرخ بأعلى صوتها: "تعالوا!! أخبروا الناس عني " ..

قناةٌ، تنقل جميع النشاطات الثقافيّة في أنحاء سوريّة كافّة، ليراها العالم بأسره، ما يتيح للملايين أن يعرفوا عن الآثار و المسرح و الموسيقا و التراث و الشعر و الفلسفة و الفنّ التشكيليّ كما يعرفون عن الممثّلين ونشاطاتهم، الممثلون الذين إضافةً إلى اهتمام مئات الفضائيّات بهم وبأعمالهم، خصّصت لهم وزارة الإعلام قناة ( سورية ـ دراما ) ..

قناةٌ، يتابعها المثقّفون و المغتربون و العرب، ويكون من بعض فضائل إحداثها الإسهام في تعميق الاندماج الوطنيّ، و تمتين التماسك الاجتماعيّ، عبر تمكينها مواطني درعا متابعة نشاطات القامشلي ، و قاطني دير الزور معرفة تراث وفعاليات الساحل ، وهكذا … فيزيد إقبال الناس على الفعّاليّات و المراكز الثقافيّة الفارغة التي لا يزورها أحدٌ، هذا فضلاً عن دورها في الترويج السياحيّ لبلدنا، وحمل رسالته الحضاريّة، ولمّ شمل أبنائه الذين باعدت بينهم المسافات … ولو شئت الاستطراد في عدّ فوائدها؛ ما اتسعت مقالاتٌ و أبحاثٌ لهذا.

يستحقّون ؛ طيب تيزيني وأحمد برقاوي وصادق جلال العظم ومحمد محسن وفاتح المدرس وغادة السمان و سهيل زكار و نزار قباني و محمد الماغوط و …. و مئات المبدعين الجدد في أربع جهات سوريّة أن نمنحهم و لو ربع ما يمنحه الإعلام السوريّ (عدا الفضائيّات الأخرى) للممثّلين و المخرجين وعائلاتهم , أجل ! عائلاتهم التي لفرط تحوّلها (بالجملة) إلى الدراما، وتعاظم تركيز الإعلام عليها؛ أصبحتُ أعتقد أن بن خلدون أو ماركس أو روسو لو بعثوا الآن؛ لأدخلوا جميعاً في منظوماتهم الفكريّة مصطلح (الأرستقراطيّة العائليّة الدراميّة السوريّة) وتناولوها ظاهرةً أكثر من فنيّةٍ أو ثقافيّةٍ ..

وهو واقعٌ، يفرض علينا جميعاً الإجابة على التساؤلات التالية ..

ـ أمن الحصافة أن نضع بيض ثقافتنا ـ كلّه أو جلّه ـ في سلّة الدراما؟ و إلى أين يقودنا هذا؟
ـ هل ينسجم جعل الدراما درّة تاج ثقافتنا (إعلاميّاً) مع ما نردّده دائماً بأن سوريّة مهد الحضارات وحاضنة الثقافات و منطلق الديانات، وأنّ لكلّ إنسانٍ متمدّنٍ في هذا العالم وطنان : سورية ، و وطنه الذي يحمل جنسيّته ؟

آن أوان ربط الحراك الثقافيّ الوطنيّ و المحلّيّ بوسائل الإعلام ، على الأقلّ بقناةٍ فضائيّةٍ لدينا كلّ إمكانات إطلاقها، فنطلق معها ما نتباهى به قولاً، ونبخسه حقّه فعلاً .. 

فهل تعتبرين يا وزارة الإعلام من جاري أبي هشام ؟ .. و السلام ..

بواسطة
حسان محمد محمود
المصدر
زهرة سورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى