مقالات وآراء

مدفع رمضان : أشتقت إليك فعلمني ألاّ أشتاق .. بقلم أ. د. اميل قسطندي خوري

أنا واحد من ملايين الناس الذين يعشقون شهر رمضان المبارك وينتظرون مجيئه بفارغ الصبر. وهذا ليس بالأمر الغريب لما يحمله هذا الشهر الكريم في طيّاته من مظاهر عديدة وفضائل كثيرة كالصيام، والزكاة عن الأموال، ومراجعة ومحاسبة النفس لما اقترفته من أخطاء وآثام وذنوب

والتسامح مع الآخرين، ومساعدة الفقراء والمحتاجين، ومد يد ألعون والمساندة للأيتام والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة، وصلة القربى والأرحام، و التوبة والتعبّد إلى الله عزّ وجل (ألاّ تعبدوا إلاّ ألله إنني لكم منه نذير وبشير، وأن استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه يمتّعكم متعاً حسناً إلى أجل مسمّى ويؤتِ كل ذي فضل فضله وإن تولّوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير، إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير .. صدق الله العظيم).

من مدة قصيرة كنت أنا وزوجتي و ابنتي في زيارة عائلية إلى بيت أختي الصغرى. وبدأنا نستذكر معاً أيام زمان حين كنا أطفالاً صغاراً .. فقالت لي أختي : "يا اللــــــــــــــه على أيام زمان .. بتتذكر يا إميل لمّا كان ييجي رمضان و إحنا صغار ، وكنا نقعد على باب الدار نستنى صوت المدفع" ؟! وعندما سمعت كلمة "مدفع" شعرت وكأنني كنت في غيبوبة طويلة وفجأة صحوت منها .. فقلت لها بدهشة العائد إلى الواقع بعد غياب قسريّ عميق : "مزبوط .. أنا فعلاً صارلي زمان ما سمعت صوت مدفع رمضان". ثم تساءلت باستغراب : "مش كانوا بالزّمانات يضربوا المدفع من جبل القلعة؟! .. شو اللي صار طيّب؟! .. ليش بطلوا يضربوه"؟!

فأجابت أختي بحيرة : " و الله ما أنا عارفة ليش .. يمكن السبب إنه مع هالتكنولوجيا الجديدة (تقصد الفضائيات والإنترنت والموبايلات) صارت الناس تسمع صوت الآذان على التلفزيون وتعرف إنه حان موعد الإفطار" ! فقلت لها بصوت بدت نبرته غريبة بعض الشيء وكأنني ألقي محاضرة جامعية على طلاب سنة أولى : "إطلاق المدفع إيذاناً بحلول موعد الإفطار مش المفروض إنه إحنا ننظر له على إنه مجرد عادة أو تقليد يمكن لنا استبداله بتكنولوجيا حديثة أو بغيرها ، لأنه حسب علمي إنه ضرب المدفع هوّ جزئية أساسية من منظومة التراث الرمضاني اللي عرفته أجيال كثيرة على مدى قرون طويلة، شأنه شأن أمور ومظاهر أخرى من هذا التراث الشامل مثل الفوانيس الرمضانية وأكل القطايف وتناول التمر قبل بدئ الإفطار و الجلوس مع جميع أفراد العائلة على مائدة واحدة " وأضفت : "أحنا يا أختي (و الكلام للجميع) بنتكلم عن تراث له أصالته وجذوره الضاربة في أعماق التاريخ ، ولسنا بصدد الحديث هنا عن عادات أو تقاليد قابلة للتغيير أو التعديل وفقاً لمعطيات أو لوجستيات واقع ما".

ثم استرسلت قائلاً: " إذا كان الموضوع متعلق بتغيّرات اجتماعية أو تطوّر حضاري أو تقدّم تكنولوجي، فهل هذا يعني إنه إحنا بنقدر نستبدل أكل التمر بالشوكولاته مثلاً ؟! وهل وجود الكيك و الحلويات الأخرى (كالبقلاوة والكنافة والبرمة مثلاً) يغنينا عن أكل القطايف التي هي من أكثر الحلويات شهرة و ارتباطاً وثيقاً بشهر رمضان الفضيل؟ وهل وجود الكهرباء يعني إنه إحنا لازم نبطل نشتري فوانيس رمضان اللي بنزيّن فيها مداخل البيوت ؟! وهل وجود العمارات الضخمة والأبراج الفارعة يعني أننا لم نعد بحاجة إلى إنشاء الخيم و المجالس الرمضانية الجميلة"؟

المسألة في رأيي المتواضع أننا نتحدّث هنا عن "تراث رمضاني" ذي قيم جليلة نابعة من ثقافة دينية عظيمة، تأصّل عبر الأزمان و الحقب التاريخية المختلفة في أعماق نفوسنا وفي جذور حياتنا الاجتماعية. ومن هنا فإن هذا التراث العريق سوف يظلّ أكبر بكثير من أيّة متغيّرات شكلية لهذا العصر أو ذاك .. فالأصل دائماً يغلب على التقليد، كما أن المضمون يظلّ أقوى وأعمق من الشكل و المظهر.

مدفع رمضان هو جزء لا يتجزأ من هذا التراث الرمضاني العظيم الذي له علينا كل الحق في الحفاظ على جميع مظاهره الجميلة وثوابته الأصيلة بما فيها إطلاق (ضرب) المدفع للإيذان بحلول موعد الإفطار .. وكل عام وسيد البلاد المفدى حضرة صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم و العائلة الهاشمية الماجدة و الشعب الأردني الأبيّ الكريم بألف ألف خير .. أعاده المولى تعالى علينا جميعاً باليُمن والبركات و الرحمة و الغفران .. ودمتم في رعاية ألله جلّ علاه سالمين هانئين .. و السلام عليكم ورحمة ألله وبركاته.

بواسطة
أ. د. اميل قسطندي خوري .. مستشار إداري وخبير إقتصادي
المصدر
عمان - المملكة الأردنية الهاشمية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى