مقالات وآراء

مسبحة الجدة .. بقلم زكريا إبراهيم المحمود

كلما حاولت أن استخلص المسبحة من يد جدتي كانت تمسكني من أذني وهي تقول: سوف تقطعها أيها الشقي،إياك أن تشدها مرة ثانية . كنت امتثل لأوامر الجدة والتصق بها وهي جالسة على فراشها قرب الموقد
حيث كنت أسارع بالنهوض عن المائدة وفي معظم الأحيان دون أن أشبع لأحتل مكاناً بالقرب من الجدة قبل أن يسبقني أحد أولاد عمي إليه ودائماً كان الشجار يدور بيني وبين خالد ابن عمي، وكثيراً ما تحولت ساحة البيت إلى حلبة مصارعة كنا نتعارك نحن الاثنان وكان والدي وعمي يقومان بالتشجيع يصفقان لكلينا يشعلان فينا روح الحماسة وينقسم البيت إلى قسمين، فريق يشجعني وفريق يشجع خالداً، ولا ينتهي العراك إلا بتدخل الجدة، إذ كانت تجلسنا أنا وخالد واحداً عن يمينها وواحداً عن شمالها وينصت البيت بأكمله حين تبدأ الجدة بسرد حكايتها .
نهضت إلى الهاتف وطلبت الرقم انه صوت هيفاء :
– كيف حالكم يا هيفاء ؟
– من يتكلم ؟
– ألم تعرفي صوتي يا هيفاء – أنا طارق وأريد أن أكلم خالداً..
– هاهو معك
– تحياتي يا أبا نزار كيف الحال .؟
– بخير. كيف حالك أنت ؟ هل تريد شيء
– كنت أود أن نقضي السهرة معاً
– اعذرني في مرة قادمة إن شاء الله لقد عدت من عملي للتو وأنا مرهق جداً
– حسناً يا خالد أرجو ألا يطول الغياب
– إنشاء الله – تصبح على خير
– وأنت بخير
كان خالد يصل إلى أقصى درجات الفرح – يرقص – يصفق – يضحك عندما كانت الجدة تنهرني وتضربني بعصاها الطويلة على مؤخرتي لأني شددت المسبحة ثانية من يدها.
• استنجد بي ولدي زاهر – بابا – مر حنان أن تبتعد عن التلفزيون إني لا أرى شيئاً – صرخت طالباً من حنان الابتعاد
ابتعدت الصغيرة إلى الزاوية وهي تشّد شريطتها بعنف وانزوت صامتة بينما كانت زوجتي تحاول تخليص خيوط الصوف التي تشابكت ببعضها .
كثيراً ما كنا ندفن حبات البطاطا في جمر الموقد وكنت أنسل من جانب الجدة وأحاول إخراج واحدة فيصرخ خالد كي ينبههم إلى اللص، فيصرخ بي والدي وأبتعد راكضاً باتجاه الجدة فكانت تتلقاني بيديها لتحميني من العقاب، وتهددني بألا تروي لي حكاية جديدة، فالقي بنفسي في حضنها وأقبلها وأرجوها متوسلاً أن تروي لي حكاية جديدة، فتضمني إلى صدرها وتقبلني وتبدأ بسرد الحكاية، وعندما تنضج حبات البطاطا كنا نجتمع حول والدي الذي يقوم بتنظيفها وتوزيعها علينا بالتساوي، ومرة أخرى ينشب شجار بيني وبين خالد لأنه يسرق من حصتي وكانت فاطمة تمد يدها بقطعة من حصتها وتناولني إياها وهي ترمقني بنظرة من عينيها الزرقاوين وابتسامة ترتسم على ثغرها .
نهضت إلى الهاتف – رن في أذني صوت فاطمة الرقيق بنبرته الدافئة:
-من المتكلم ؟
كيف حالك يا فاطمة ؟
– أهلا طارق كيف حالك أنت ؟
بخير والحمد لله – لم لا نراك ؟
– هموم الدنيا كثيرة
أدعوك لقضاء السهرة عندنا أنت وزوجك
– والله نحن مرتبطان بموعد أجلها لمرة قادمة
– حسنا مع السلامة ..
تسمرت زوجتي و الأولاد أمام التلفزيون وتعلقت العيون بمشهد خطير على ما يبدو ( الوالد يعارض زواج ابنه ممن يحب وقد فاجأهما معاً )
نهضت إلى غرفتي وفتحت الخزانة – أخرجت المسبحة – مسبحة طويلة، وكثيراً ما سألت جدتي:
– هل هي مئة حبة وحبة، أم مئة حبة إلا حبة.. ؟
وكانت الجدة تضحك وتقول عندما تكبر ستعدها .
*عندما وصلت إلى المشفى كانت الجدة مسجاة على السرير نظرت إلي وابتسامة على وجهها تختزن كل حنان العالم ثم أخرجت المسبحة من تحت الوسادة ومدت يدها نحوي إنها لك يا طارق، حافظ عليها …….
مسحت الدموع التي سالت على خديّ، وحملت المسبحة وعدت ثانية إلى غرفة التلفاز – لم ينتبه أحد
لدخولي – يبدو أن الموقف يزداد تعقيداً هكذا قلت في نفسي. اتكأت ورحت استمع لارتطام حبات المسبحة ببعضها وأنا أعدها وصلت للرقم اثنين وعشرين – صفع الوالد ولده بقوة – فأطلقها زاهر ضحكة صافية صادقة – نظرت إليه أمه مؤنبة :
– أتضحك على مصائب الناس يا لك من وقح !!!
تابعت العد تجاوزت الثمانين لم أنتبه للصغيرة وهي تحبو باتجاهي استندت بيديها عليّ وحاولت النهوض وأثناء نهوضها، تعلقت بالمسبحة وجذبتها ….
تناثرت الحبات كل واحدة باتجاه – والموقف في التلفاز يزداد تشابكاً…

بواسطة
قاص ومحرر أدبي
المصدر
في موقع أوروك الجديدة

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كلمات جعلتني أشعر بالدفئ واتذكر الماضي الجميل الذي عشناه برفقة الجدة صاحبة المسبحة الطويلة التي قد لاتعود الأيام للوراء لتذكرنا بها
    شكراً صديقي القاص على هذه الكلمات

زر الذهاب إلى الأعلى