مقالات وآراء

غـزة … والـعـدوان الثـلاثي

بدء الاضطراب في التحالف المشترك لأطراف العدوان يُفسر هذا التحليل القائم على معطيات سياسية ميدانية وإستراتيجية من أرض الصراع للمعتدي والصامدين.
إن استعراض التصريحات الصادرة قبل العدوان وخلاله في الأيام الثلاثة الأولى ابتداء بإعلان ليفني تغيير الوضع القائم في غزة وتصفية المقاومة، وانتهاءً بإعلان مبارك أن مصر لن تفتح معبر رفح ومن ثم احتاج إلى تغطية هذا الموقف التاريخي لمشاركة نظام حكم عربي في الهجوم على غزة وإسناده ميدانيا لمنطقة من أهم المفاصل وهو مناطق الإسناد الإنساني فضلا عن السياسي والذي انقلب إلى إسناد للعدوان.. لذا لجأ مبارك إلى تغطية الموقف بأنها خديعة إسرائيلية. ولا نعرف كيف تكون خديعة وقد طلب رئيس المخابرات من تل أبيب جز رؤوس حماس قبيل العدوان وأعلنت ليفني ذلك من القاهرة.
لكن ذلك لا يعني عدم تورط القاهرة -ونقصد هنا النظام الرسمي وليس الشعب العربي المصري العظيم- وخشيتها من تداعيات الموقف، خاصةً بعدما أدرك مبارك بأن المرحلة الأولى من المشروع الإسرائيلي تتوجه نحو الاضطراب والفشل، فما هو هذا المشروع الذي أُعلن رسميا من الأطراف الثلاثة ولكن بلغة مختلفة في التفصيل.
يكشف لنا سياق التصريحات للأطراف الثلاثة والتغطية الإعلامية الإسرائيلية والتسريبات التي تزامنت مع الساعات الأولى للعدوان، أن هدف المرحلة الأولى كان ضرب قيادة المقاومة مباشرة وتصفية أبرز قادتها إضافة إلى قدراتها العسكرية، وتحويل المعركة إلى الداخل بتهييج الشعب في غزة، ومن ثم إحلال البديل الذي كان قائما حيث نسقت تل أبيب مع سلطة عباس بإدخال الفوج الأمني المُعد لهذه المهمة مع الدبابات الإسرائيلية لإحلالهم بدل قيادات حماس بعدما يُنهك الشارع الغزّي.
وهذه المعلومة رصدت على الواقع وأشير إليها إشارة ضمنية كان أكثرها صراحة هو ما بدا أنه حماقة في العرف الأمني، ولكن حماسة الرجل أطلقت بها لسانه.. إنها دعوة نمر حماد مستشار عباس سكان غزة إلى الصبر (أي تقبل العمل العسكري) وقوله إن الشرعية (سلطة محمود عباس) قادمة. ويبدو الأمر جليا وأكثر وضوحا من خلال الحملة العنيفة على حماس من محمود عباس وطاقمه في الأيام الثلاثة المذكورة وأن المسؤول عن العدوان بحسب تصريحاتهم هو حركة حماس ونهج المقاومة.
في نفس الوقت يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار التضييق الشديد الإستراتيجي على غزة من معبر رفح ومن معابر الكيان الصهيوني وتشديده تصاعديا حتى الوصول إلى نقطة الصفر، وبعد انطلاق العدوان وخاصة في الأيام الثلاثة الأولى ومع الغطاء الأميركي الضخم للعدو الصهيوني, حيث ضُيّق الحصار على الجرحى وتم تشديد الموقع الأمني بتحول القوات المصرية إلى الوراء واتخاذ مواقع على منصات الأسلحة الرشاشة مقابل المضطرين للدخول بهدف تهريب جزء من الغذاء أو الدواء تحت القصف.
وهنا يجب الأخذ بالاعتبار بأن حدود غزة رغم حجم العدوان التاريخي لأي معركة وقعت من قبل, لم تشهد زحفا من الحشود إلى جهة الحدود المصرية، ولكن بضع عشرات من الناس لاحتياجات هي أكبر الضرورات, وهو مقياس نادر حيث إن جميع الدول التي تجتاحها الحروب يزحف الكثير من سكانها المدنيون إلى مواقع الدول المجاورة لتأمين سلامتهم مؤقتا وهو ما لم يقم به شعب غزة, وهو عرف ونظام دولي سائد، ومع ذلك لم يفسح لبعض العشرات أو المئات من تحقيق ذلك في الحدود المصرية.
وهنا يبدو لنا جليا عدم صحة ما قاله مبارك من أن حصار غزة من مصر بغطاء دولي، ولكنه العكس فهو خرق لأبسط قواعد التعامل الإنساني المُقرّ دوليا في حالات الحروب, والذي لا يخضع لأي اتفاق آخر وقت الحرب، لكن على كل حال إنما نحن في سياق أن قرار التضييق وتشديده على غزة جزء من أركان تحقيق المرحلة الأولى للعدوان.
لكن السياق لخطة العدوان ومرحلته الأولى تعطل فلم تسقط المقاومة ولم تتوقف صواريخها من السقوط على الاراضي المحتلة ولم يتظاهر ضدها الشعب، وارتفعت تكاليف العدوان سياسيا وإنسانيا, وليس الخشية لدى التحالف من حجم الضحايا إنسانيا ولكن القضية التي يخشى منها أضلاع التحالف أن هذا العدوان الوحشي لا يمكن أن يستمر في تغطيته ومنع تداعياته التي قد تؤثر على الاستقرار السياسي لأطراف عربية إقليمية مهمة, والخشية من أن تنحدر الحرب إلى تطورات تفلت الزمام عن السيطرة، ولذا برز هذا الاضطراب في اليوم الرابع وبدأت تصريحات تل أبيب تضطرب بين الإعداد للزحف البري والتقدم له وبين محاولة الحصول على استسلام ولو منقوص من المقاومة، دون الإعلان عن خروجها من غزة أو تسليم قيادتها بحسب المرحلة الأولى المخطط لها.
وفي المقابل، كان رصد تخبط تصريحات وزير الخارجية المصري واضحا إذ تحول من الهجوم على المقاومة في طريقة حديثه إلى الدفاع عن الشراكة الجلية مع تحالف تل أبيب لحرب غزة.
وانعكس هذا الموقف على سلطة رام الله، إذ أعلنت فجأة ترحيبها بالحوار الوطني وصعدت لغة إدانة العدوان الخجلة لديها, بينما تشدد الحصار من الضفة باستثناء بعض المواد التي تنقل للتغطية الإعلامية بعدما كان عباس يَسخر من المعونات الإنسانية ومحاولات كسر الحصار ولا يعترف أصلا بأن هناك حصارا على غزة. وكذلك بدأ تخفيف لغة الهجوم على حماس لأن فشل المرحلة الأولى يعني تداعيات ضخمة لسلطة رام الله سيترتب عليها وضع مُكلف لها، خاصة أن اعتقال ومحاصرة المئات والآلاف من نشطاء المقاومة وتشديد القمع في الشارع الضفي قد ضُيّق وشُدّد مع ساعة الصفر للعدوان.
ولذا لجأ طرفا التحالف العربيان إلى الجامعة العربية سواء لتعطيل القمة رغم أنه لا يتوقع منها موقف ميداني مؤثر مطلقا، ولكن اجتماع القمة والتغطية الإعلامية لها وتسجيل موقف لا تستطيع أطراف التحالف حجبه سيعطي زخما معنويا ولو محدودا لصمود غزة، وهو ما لا يريده التحالف.
ولذا تم التركيز على إسناد الموقف المتداعي إلى حكومة مصر وسلطة رام الله للخروج من المأزق والتهيئة للانتقال من مربع المرحلة الأولى, وأيضا إبقاء الباب مواربا للحصول على تنازل وخسارة لحماس تبدأ بتأسيس نهاية للمشروع المقاوم في فلسطين بغطاء مجلس الأمن الذي لن يستطيع أن يفرض واقعا لم تستطع واشنطن فرضه لأنه كان ولا يزال إحدى آليات الهيمنة الأميركية.
فإذا كانت واشنطن التي تعيش مرحلة انتقالية قد فشلت فماذا عن الحديقة الخلفية؟! فضلا عن تغيّر بعض قواعد اللعبة في قدرات وحضور أقطاب العالم الدوليين, وما قصدته هو أن مجلس الأمن لن يُنقذ التحالف المعادي لغزة وستفشل المحاولة العربية الرسمية لتحقيق هذا الغرض.
ومع هذا التصدع في المرحلة الأولى وفشل المشروع الصهيوني ، تزامنت صور المحرقة مع تحرك الشارع العربي والإسلامي نخبة ورأيا عاما.
وبرغم أنه لا يزال في موقع التقصير الكبير فإنه شكل ضغطا على الأرض وقلقا لبعض الدبلوماسيات العربية من تأثر استقرارها، وأيضا طلب التحالف المتواصل مع الأطراف العربية الرسمية الأخرى باحتواء حركة الضغط الشعبي حتى لا تمثل سندا معنويا أو ميدانيا على معبر رفح ودول الطوق وتساهم في تورط حرب العدوان الثلاثي وانهيار إستراتيجيته الكلية.
ومع أن أحدا من القوى الشعبية العربية لم يُطالب بعصيان مسلح ولا بانقلاب عسكري ولكن بالسماح لحركة تضامن متواصلة عربيا تنتهي بفتح المعبر وبالضغط على قوى العدوان -وهنا شريك عربي معه- من خلال التغطية الإعلامية الحقيقية وتفعيل السلاح الاقتصادي.
ولذا فقد تشكلت ثقافة لاحتواء الموقف التضامني لنزعه من تأثيراته وهي تقوم على تحويل الخطاب التضامني من رفض العدوان بشراكة وتقصير عربي إلى أن القضية هي صراع وخلاف بين الفلسطينيين.
ولذا فإن التضامن يكون بدعوتهم إلى الوحدة بدون ذكر الهدف الذي حدده الإسرائيليون أنفسهم وهو اجتثاث المقاومة كمشروع تحرري أممي عربيا وإسلاميا, بمعنى أن هذا الخطاب الذي بدأ تسويقه يهدف إلى عزل القوى المنضوية تحت مشروع المقاومة.
وأمام كل ذلك الاضطراب من التحالف الثلاثي فإن صواريخ المقاومة أظهرت أكبر تطور في موازين الرعب وقدرات المقاومة، وهي تتجاوز كل الأرقام الإسرائيلية المتوقعة وتضرب أهدافها وتسقط قتلى وجرحى.
ومع ذلك الزلزال الشديد الذي يعيشه الإسرائيليون ويحتاج إلى زيارة عاجلة من باراك أو ليفني بعد سقوط الصواريخ لمحاولة إقناعهم بالصمود, فإن تقدم هذه القدرات ووصولها إلى أهدافها يجتمع معه محافظة المقاومة على قدرتها الإستراتيجية الهجومية الردعية أمام الزحف البري وخنق العدو في هذا الواقع وتطويراته المقلقة له.
ونصر غزة قد بدأ منذ خروجها من المرحلة الأولى وقد انكسر التحالف ولم تنكسر في تلك المرحلة، وهو نصر نسبي في الحسابات ولكنه إستراتيجي في الهدف النهائي.
ولسنا هنا نقلل من حجم التضحيات القائمة والقادمة، لكننا نعرف ماذا يعني أن تنتهي إليه هذه المرحلة من الصراع مع الكيان الصهيوني من خلال دحرجة مشروع المقاومة إلى تثبيت قواعد المشروع التحرري لفلسطين على الأرض ولجوء العدو وحلفائه إلى شروط الهدنة التي تشترطها المقاومة وليس الحلفاء، وهو تفصيل سيكون لنا فيه عودة في مراحل قادمة.
ولو أدركت نُخب العمل الإسلامي والقومي معنى أهمية الدعم الذي يُقدم في هذه المرحلة أمام أشرس وأقذر جيش في القضية المركزية التي قالوا زمنا طويلا إنها كذلك، لعلموا أن التضحية التي يفترض أن يقدموها -وهي أقل بمراحل من تضحيات غزة- واجب وليست مندوبا.. أيظنون أن فلسطين تتحرر والناس على أسرتهم وموائدهم ورفاهيتهم؟!!
على كل حال فإن المقاومة والتي لاقت الأغلبية الكاسحة وقدرتها على الوصول المباشر بقوة قضيتها إلى الشعب العربي بكل توجهاته وحجم الثقة والإيمان بها وبالشعب الفلسطيني، سجلت أعلى الأرقام فضلا عن إعادة الالتحام بالقضية الفلسطينية, وهذا لا يلغي صور الخور أو ثقافة التفاهات السائدة في الواقع, لكن حجم التضامن مع الحدث ومع غزة وأيضا ما تسبب به العدوان من تقديم دليل عملي تاريخي أن هذا الكيان إرهابي لا يجوز أن يُعطى مبادرات سلام يستغلها في تغذية عدوانه, أصبح قضية جلية لدى الرأي العام العربي.
فالمسؤولية على محور الاستقلال العربي والإسلامي وقد صنعت لهم غزة فجرا لم يشهده التاريخ العربي المعاصر وأن الوجود هو محور الصراع الحقيقي، وهو إستراتيجية القوة وتوازن الرعب وهو يتقدم على الأرض .

بواسطة
كفاح دبور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى