أخبار البلد

المعمرة ام سليمان 128 عاماً.. لم تذهب لطبيب ولم تتبع نظاماً غذائياً

نعمة ام نقمة أن تعيش طويلاً على هذه الأرض؟

سؤال من وحي الوجود.. ‏

والإجابات كثيرة.. متناقضة ومختلفة.. وكل بحسب قناعاته وسعادته وحظوته في هذه الدنيا.. ‏

فماذا عن الجدة وطفة او «ام سليمان»؟ ‏

وهي جدة لجدة.. ‏

قرن وأكثر من ربع قرن عمرها… ‏

ولدت في القرن التاسع عشر العام «1880» هذا حسب هويتها التي جددتها حديثاً ـ ‏

اسمها بالكامل» وطفة غانم الدياب»، تسكن في قرية «الشعيرات» شرق حمص بمسافة (40) كم .. وهي قرية صغيرة وتعداد سكانها قليل .. جميعهم يعرفونها، وإن كان البعض منهم لا يصدق انها وصلت من العمر ما وصلته.. ‏

في زمن كزمننا ـ حروب وصراعات وأزمات مستقرة
اول ما يخطر ببالك ان تسأل عن عدد الحروب التي عايشتها هذه العجوز .. ‏

هي كثيرة ولا شك.. ولا تزال ايام «السفر برلك» جاثمة على ذاكرتها ‏

حيث اضطرتها المجاعة والفقر ان تذهب للعمل مع ذويها في الزراعة لدى الآخرين في الجنوب من سورية ‏

لكن.. هذا لا يعني انها لا تعي الحاضر .. ‏

فهي تتعرف الى من حولها بأشكالهم وأسمائهم وأوضاعهم ـ رغم ضعف بصرها وفقدانها منذ زمن طويل لاحدى عينيها. ‏

وتعرف انها قد امضت طويلاً جداً في هذه الحياة .. وان احداثاً قد حدثت في زمن من الماضي البعيد.. ‏

وتعرف.. وتعرف.. ويشدها في بعض الاحيان (عندما لاتئن عليها آلامها) مسلسلات من نوع خاص التي فيها مزارعون وفلاحون يسكنون الصحراء.. فتجلس على مقربة من الشاشة، تتسلى بمتابعة المشاهد والحركات للممثلين.. وقد يحدث ان تفتقد في اليوم التالي لاحد هذه المسلسلات وتسأل عنه.. ‏

اذاً.. ليس من خرف لديها.. ‏

لانه (وحسب ما نسمع من الأطباء) يتظاهر الخرف بأن تنتعش ذاكرة الاحداث البعيدة في حين يكون الادراك بالحاضر مشوشاً ومرتبكاً وغائباً.. ‏

واقع فقير للعائلة.. ‏

ف « ام سليمان» تسكن مع ابنتها الستينية وحفيدتها العازبة في منزل ريفي متواضع.. بسط وحصر فرشت على الارض.. ومدفأة تكومت بقربها هذه الجدة بجسدها الضئيل. ‏

مع ركنها هذا ووداعة مظهرها.. ‏

لا بد ان تشعر بأنك قد وجدت مكاناً ما مسالماً وهادئاً وسط هذا الاضطراب من العالم.. ولعلك سترتاح الى شعور غامض بالنهاية.. ‏

ولكن.. ‏

هل ستشاركك هذه العجوز الطاعنة بالسن مع افراد عائلتها انطباعاتك ومشاعرك؟ ‏

لا نعتقد.. ‏

فما زالت ابنتها وحفيدتها تعملان بأعمال الزراعة (في المواسم) لدى الآخرين لأنهن لا تمتلكن ارضاً.. ‏

كما فعلت هذه العجوز المعمرة.. التي تناقلتها سنواتها الكثيرة من فقر الى فقر.. ‏

فقد عملت بهمة كبيرة.. في اراضي الآخرين ورعي اغنام ليست لها وفي تنجيد الصوف .. وحتى ‏

كقابلة في القرية.
تزوجت وأنجبت سبعة أولاد.. توفي زوجها منذ أكثر من نصف قرن وتركها مع فقرها وعيالها حيث فقدت اثنين منهم في ريعان الشباب. ‏

والآن بقي لها ابنتان فقط واحدة تعيش معها والأخرى في طرطوس. ‏

أحفادها ثمانية وأولادهم 16 وكلهم يسعون ويكدون وبالكاد يكسبون. ‏

وكي نرضي فضول من يريد أن يعرف الأسباب وراء عمرها المديد.. فهي تأكل كل ما يتاح لها.. ترى ماذا يتاح للفقراء؟ ‏

ولم تعتمد غذاء معيناً.. وهل بإمكانها؟. ‏

وطبعاً لم تدخن يوماً. ‏

ولم تمارس الرياضة.. بل مارست الأعمال المضنية سعياً وراء لقمة العيش. ‏

وليس طول عمرها بالوراثة.. ‏

فلم يسبق لأحد من أفراد عائلتها أن امتد به العمر طويلاً. ‏

تحدثنا إليها.. سألناها عن صحتها وعما يؤلمها ومن يرعاها؟.. سمعتنا.. ولو أن سمعها بات ثقيلاً. ‏

وأشارت إلى من حولها وقالت إنهم يهتمون بها، وخصّت الكنة «أم علاء» بذلك وقالت أيضاً بأنها لم تذهب إلى طبيب يوماً ولم تتناول العقاقير. ‏

وقالت: الطبيب يكلف مالاً لا يملكونه. ‏

وأشارت إلى السماء وتمتمت: «كله على الله». ‏

ثم صمتت. ‏

ولم نعرف أنها تتابع حديثنا إلا عندما بكت في إحدى اللحظات.. حيث كنا نتحدث عن شعورها بعبئها على أفراد عائلتها وبأنها تتمنى الموت. ‏

وعما يؤلمها.. أشارت إلى رأسها وأطرافها التي تصلبت. ‏

الكنة «أم علاء» قالت بأنها لم تعد تستطيع وضع غطاء رأسها أو تعصبه عندما يؤلمها. ‏

ربما كل ما فيها يؤلمها لكنها تكرر دائماً «كله على الله» فهو الشافي.. والطبيب أيضاً يا «أم سليمان». ‏

لكنه يكلف مالاً يشيح بوجهه عن هذه العائلة التي اضطربت منذ أيام قليلة واحتارت في تدبير مبلغ للمياه عبارة عن مئات قليلة من الليرات السورية. ‏

ماذا بقي من الحاجة «ام سليمان» بعد كل هذه العقود؟ ‏

عين واحدة فقدت رفيقتها منذ زمن طويل عندما كانت تعمل في الحقول.. والمزارع.. ‏

وسنفترض ما حدث.. غصن أو شيء ما أصاب عينها.. ‏

تجاهلتها وأهملتها.. يرغمها ليس الجهل أو لأن الأطباء لم يكونوا موجودين آنذاك.. بل هو الفقر الذي يجر وراءه الجهل والتجاهل.. فأطبقت العقود الطويلة عينها التي تكاد تضيع بين غضون وجهها.. ‏

منذ عامين كانت «أم سليمان» تلبي احتياجاتها بنفسها داخل المنزل.. وتخرج منه لوحدها وتجلس أمامه تبادل أهل القرية التحيات والسلامات الريفية الودودة. ‏

أما الآن.. فأصبحت تحتاج من يسند مشيتها ويأخذ بيدها ورغم ذلك.. فأفراد عائلتها يحبونها ويحبون وجودها بينهم ويقلقون عندما يزداد توعكها. ‏

هذه العائلة الودودة.. لم يفتها أن تشكو من شيء في الحاضر.. من الطريق الموصل إلى منزل الجدة.. والذي لم يعرف الزفت يوماً وعندما فكرت البلدية بشيء لهم فرشته بالبحص.. ‏

والسبب حسب «أبو علاء» حفيد الجدة أن الطريق يؤدي إلى موقع أثري.. ولكن تساءل «أبو علاء» هل سيؤثر الزفت بشيء على الآثار؟.. ‏

وأردف: يمكنهم اقتلاعه متى أرادوا.. عندما سينقبون أو يحفرون.. وهل مد قميص أمام منزل جدته ثم اقتلاعه.. أمر مكلف. ‏

ألا يحدث مراراً وتكراراً في شوارع يقطنها آخرون من غير الفقراء.. أم أن هذا الطريق بأمتاره المئة ومنازله العشرة الفقيرة يسقط من الحسبة دائماً؟.. ‏

أخيراً.. ‏

هل تختصر بضع كلمات حياة بكاملها.. ‏

لا نعتقد.. ‏

ولكن بعد هذا الإيجاز… ‏

هل بقي فينا من يحسد الجدة «أم سليمان» على سنواتها الـ128؟ ‏

وهل المسنون الآخرون ذوو الثراء والحظوة كانوا سيصمتون على آلامهم كل هذه العقود؟ ‏

وهل كانوا سينؤون عن أدوية تخفف آلام الشيخوخة؟ كما فعلت وتفعل أم سليمان التي صبرت وتصبر على آلامها. ففقرها.. يؤلمها أكثر. ‏

 

المصدر
جريدة تشرين السورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى