مقالات وآراء

حلب.. روح تتحدى رصاصة وأرض تُعلّم البقاء

ما شأنهم بيني وبين أرضي؟، خُلقت عليها وإليها عودتي، فلما يتكبدون بالحياة مشقتي؟، على هذه الأرض نام الزمن أجيال فلما لا يعيش عمري سنينه فيها بأمان؟، في هذه التراب ترتاح
 الأبدية وتصرخ على سطحها بالريحان، فلما يجعلون الريحان رصاص، ولما تحول عبيره لبارود ودخان..؟.

تعتبر مدينة حلب إحدى أقدم المدن المأهولة في التاريخ، وقد سطرت بموقعها ونشاط سكانها الاقتصادي والتجاري اسماً عريقاً تناقلته أجيال بعد أجيال، ومن أهم ما تميزت به هو التفاعل السكاني الذي نتج عن الصفات الاجتماعية والإنسانية التي تميز بها سكانها، وكل حقبة زمنية مرت بها كانت تأخذ نصيبها من القيم الاجتماعية ومثابرة العمل، لترفرف في الوجود علماً من الذهب، كلما مر الزمن عليه كلما زادت قيمته ومن لا يعرف حلب الذهب؟.

الآن بعد مرور الأزمة السورية في شوارعها وقلوب سكانها، لم تترك فيها متسعا للحياة، وبات حتى الهواء يحاسب عليه الحلبي في وطنه، لاسيما في المناطق الشعبية التي تتكون من نسيج اجتماعي متعدد الطوائف، وذات طابع اجتماعي متلاحم، أبرز ما ميز التفاعل الاجتماعي الذي كان يعمه هو الألفة والتاريخ الحياتي المشترك، لكنه الآن مبعثر الأوصال ويعاني من هجران الأمان، حيث تعتبر هذه الأحياء مرصد هام للقناصة الذين يحلو لهم قطف أرواح العامة، طبعاً هؤلاء العامة عُزّل ولا يحملون معهم سوى قلوب مفعمة بالحياة وأكياس يضعون فيها طعامهم الذي يمنحهم قليل من الحياة، فتحلو في عين القناص أجسادهم، ليمنحها كل ما يملك من فناء.

يشح الوضع الخدمي في حلب من تأمين احتياجات المواطنين، فالكهرباء والماء اللتان تعتبران عصب الحياة ليستا متوفرتان بالقدر المناسب لتامين الاحتياجات الحياتية، وعن الوضع الإنساني فقد أنقذ طريق خناصر العامة من مأساة الحاجة التي كانت تهدد قوتهم اليومي، ففي بعض الأحيان توصل الناس لقطع أشجار الحدائق كي تجعلها حطباً لطهو الطعام، وعن مادة الخبز فقد وصل سعر الربطة الواحدة في مناطق لتسع مئة ليرة سورية للربطة الواحدة هذا غير التلاعب بوزنها الذي كان يتعمده الباعة من اجل مزيد من الجشع، إضافة لذلك انتهاز التجار والنفوس الضعيفة للواقع الذي يعتبرونه فرصتهم للوصول لأعلى مراتب المال والاستغلال، وعن أسعار اغلب المواد الأخرى فقد حققت صعودا لما يقارب العشرة أضعاف، لكن فتح طريق خناصر أنقذ الوضع نوعا ما، وباتت الأسعار مقبولة تقارب الأسعار في باقي المحافظات.

وفيما يخص توالي الاشتباكات التي ذهب ضحيتها الكثير من أرواح العامة، جعلت منه أكثر خطورة للحياة الاجتماعية، مما اضطر لهجران البعض محافظتهم الحبيبة التي زغردت فيها أيامهم وأحلامهم بحثاً عن الأمان في محافظة أخرى، فهناك مزيد من الغدر الذي يختصر فيه القناصة أنفاس العامة، هذا القلق أو هذا الواقع هو ما يدفع ثمنه كل من يستنشق هواء حلب، بعض من الوجود المرتبط برصاصة غدر يُدفع ثمنها باقي حياة.

كل هذه الأمور تصب في بوتقة الإرهاب الذي يفتك بالحياة البشرية والاجتماعية، فالإرهاب ظاهرة خطيرة في حياة المجتمعات الإنسانية وهو أسلوب متدنٍ للوصول إلى الأهداف، ليست له هوية ولا ينتمي إلى بلد وليست له عقيدة، إذ انه يوجد عندما توجد أسبابه ومبرراته ودواعيه في كل زمان ومكان وبكل لغة ودين، حيث تعود الأسباب الفكرية للإرهاب والعنف والتطرف في أغلبها إلى معاناة العالم الإسلامي اليوم من انقسامات فكرية حادة، بين تيارات مختلفة، فمن تيار علماني يدعو إلى بناء الحياة على أساس حداثوي دنيوي وغير مرتبط بالأصول الشرعية ولا بالتقاليد والعادات والموروثات الاجتماعية الأصيلة، إلى تيار متعصّب منغلق يعارض المدنية الحديثة وكل ما يتصل بالتقدم الحضاري، ومن الأسباب الفكرية الأخرى تشويه صورة الإسلام والمسلمين وتقليص الاهتمام بالتفكير الناقد والحوار البناء من قبل المربين والمؤسسات التربوية والإعلامية، وسوء الفهم والتفسير الخاطئ لأمور الشرع والدين، والمشكلة أنّ الجيل الحالي يفتقد العمق الثقافي وشحن العقول بأفكار متطرفة، إضافة للمآرب الدول الاستعمارية التي غذت الإرهاب ودفعته في الدول التي لها فيها أطماع، كي يقسم أوصالها ويسهل عليها استعمارها، فيكون تشجيعها للإرهاب من خلال التناقض الواضح بين ما تقرره وتحض عليه مبادئ ما اصطلح على التسمية "الشرعية الدولية " وبين الواقع والممارسات الفعلية.
لكن بالرغم من اكتظاظ الحقد الذي نجم عنه كثير من الضحايا في حلب، وبالرغم من واقع المعيشة الأليم والإرهاب الذي يحيط به من كل صوب وحدب، إلا أن بعض السكان المصرين على نبض حلب في عروقهم لازالوا باقين على عهدهم بأرضهم، وعهد أرضهم بهم، يقبِلون على يومهم بعمر تهدده رصاصة، ويهدد الرصاصة بخلود شهادته، حيث نقل عن أحد الأهالي أنه: "لن يترك أرضه مادامت روحه ملكه"، وقد عبر آخرين أنهم لن يتركوا حلب.

ليس بغريب عن أهل التاريخ الذين علموا الحجر كيف يعمر أجيالاً أن يعلموا الإرهاب ما معنى الوجود، بعقولهم التي لا ينحتها الكفر، مع قلوبهم التي لا يثنيها غدر، في أرواحهم التي تبحث عن خلوها بالأرض وبعدها الشهادة، تجثو الأزلية عند جباههم وتهتف لهم.. لكم الحياة من بعد حياة ولي فيكم قبلتي لصلاة أدعو فيها خالقي أن ينقذ وطني من هذا المصاب.

بواسطة
غانيا درغام
المصدر
خاص _ زهرة سورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى